في هذا العيد أيضاً سيتسنّى للأطفال أن «يعيّدوا» في «حرج العيد». وإن كان «حرج العيد» الذي يقصدونه مختلفاً بكل معانيه عن الحرج الذي قصده آباؤهم في صغرهم لاحياء عيدي الفطر والأضحى، إلّا أنّه يبقى منفذاً وفسحة مطلوبة. وإن كان الزمن والحرب قد غيّرا معاني «حرج العيد» فإنّ الإبقاء على حرج بيروت مقفلاً غيّر أو جعل الناس تنسى ما يعنيه وجود فسحة خضراء في المدينة. لكن في هذه الأيام وفي أيامنا المستقبلية سيشعر الآباء الذين عرفوا الحرج في صغرهم بحاجتهم إليه مرة أخرى أكثر من أولادهم أو أحفادهم، إذ إننا مجتمع يتّجه نحو شيخوخته، لأسباب عدّة أهمها معدلات هجرة الشباب المرتفعة والمتواصلة، وانخفاض معدّل الخصوبة لدى المرأة بحسب الأستاذ في علم اجتماع التنمية في الجامعة اللبنانية نزيه خياط. من هنا أصبح ضرورياً إيجاد مساحات خضراء للمتقاعدين أيضاً وليس فقط للعائلات.
منذ سنوات قليلة تحالفت 18 جمعية مدنية، بقيادة جمعية «نحن»، من أجل إعادة فتح حرج بيروت، بكل أجزائه، أمام الناس جميعاً وليس فقط لحاملي التصاريح الخاصة (كما هو الحال الآن). تحرّك المجتمع المدني لاستعادة حق الناس بالحصول على أماكن عامة ومساحات خضراء في المدينة، بعدما كانت الدولة في كلّ مرة، تجد سبباً، حقيقياً كان أو واهياً، للإبقاء على الحرج مقفلاً. لكن مع الوقت، ومع أنّ الحرج بقي ثابتاً مكانه، إلّا أنّ المنطقة التي يقع فيها أصبحت تصنّف «خطرة» بسبب التغيّرات السياسية التي طرأت على البلاد، وتحوّل الحرج إلى «خط تماس» جديد او مكرّس، يفصل ما بين قصقص والشياح وعين الرمّانة. الآن أضيفت حجّة «الوضع الأمني» و«موقع الحرج الصعب والخطر» إلى الخطاب الرسمي الجديد لتبرير تأخير العمل على فتحه مجدداً. لكن الموضوع يجرّ نقاشات وتحليلات كثيرة. هل إنّ افتتاح الحرج، والتقاء الناس، من أي صوب من خارج الحرج أتوا، في مساحة خضراء عامة يساعد، في الأمد الطويل، على إعادة الودّ والألفة في ما بينهم؟ أم أنّ افتتاحه يشكّل فعلاً خطراً، بما أنّ المشاكل من حوله ستنتقل إليه؟
لا يوجد منزل من دون صالون، ولا ضيعة من دون ساحة، يقول المدير التنفيذي لجمعية «نحن» محمد أيوب. بالنسبة إليه «الحرج» هو صالون المدينة. الصالون بالمعنى الذي يلتقي فيه كل أفراد العائة ليتناقشوا ويتفاعلوا، بينما يُعزل كل طفل في غرفته إذا ما ارتكب خطأ ما. الحرج إذاً هو المكان الذي يحتاج إليه الناس للّقاء والتفاعل، بالنسبة إلى أيوب، وفتح المجالات العامة أمام الناس هو أساس لإلغاء الفروقات الطبقية وكسر الأفكار النمطيّة وللمحافظة على ذاكرة الناس. كما أنّه في الأماكن العامة تجتمع الناس في أفراحها وأحزانها، وتؤسّس لعمليات ديموقراطية، ويذكّر هنا أيوب بنموذج «هايد بارك» الشهير في لندن. لكن تفسير الأمور أو دور المساحات العامة يختلف كثيراً لدى المعمار والخبير في شؤون التخطيط الحضري فادي شيّا ونزيه خيّاط عنه لدى أيوب. فهما لا يريان الحرج كفسحة لقاء ديموقراطية داخل المدينة أو كمصنع للأفكار نخرج به من الفضاء العام إلى المدينة المسحوقة، بل إنّ الأشياء تسلك الطريق المعاكس بالنسبة إليهما. فإنّ التغيرات التي تطرأ على المدينة وناسها هي التي تعكس معانيها على الحرج أو أي مكان عام آخر. من هنا فإنّ تصرّف الناس مع بعضها البعض في الحرج لن يختلف عن تصرفها خارجه، ويضيف خيّاط «إنّنا نعيش أكبر مراحل انحطاطنا الديني والسياسي، من هنا من الصعب أن يتحوّل حرجنا إلى «هايد بارك» بل على الأغلب إنّ أيّ عراك ينشأ داخل الحرج بين طفلين من مذهبين مختلفين يمكن أن يحوّل الحرج إلى خط تماس بين المنطقتين المتخاصمتين لأيام». بالنسبة إلى شيّا يتحوّل المكان العام إلى مكان حوار وتلاق في حالة «الغرباء المسالمين»، أمّا في مناطق النزاع فيصبح من الطبيعي أن يدخل السلاح إلى الحدائق العامة أو أي مكان آخر. ولعلّنا لم ننسَ بعد آخر دخول مسلّح إلى الحرج، عندما دخله مسلّحون، تحت جنح الظلام، ونصبوا قنّاصاتهم باتجاه منطقة الشياح بعد عملية اغتيال رئيس شعبة المعلومات التابع للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي وسام الحسن. كما يذكّر خيّاط بمحطة أخرى دخلت فيها الحرب إلى الحرج، وهي في الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، عندما نصب المقاومون مدافع مضادة للطائرات في الحرج فقامت إسرائيل بحرقه. من هنا يستنتج شيّا وخيّاط أنّ الحرج لا يبقى مساحة بعيدة أو محايدة عمّا يحصل من حوله، فهو في ثقافة الناس ليس جزءاً مختلفاً من المدينة، إذ لا يمكننا أن نتوقّع أن تكتسب المساحات العامة لدينا المعاني التي اكتسبتها في الغرب فور إنشائها. فيقول شيّا إنّ حصول المكان العام أو المساحات العامّة في الغرب على المعاني التي تختزلها اليوم، حصل نتيجة تراكمات عدّة وتطوّر تدريجي نحن لا نزال بعيدين عنه. إذ إنّ الحديقة العامة لم تكتسب هناك معنى التفاعل واللقاء والمكان الذي يؤمّن الراحة النفسية لزائريه إلّا بعد مرحلة الاستقرار والرخاء الاقتصادي. فيذكّر شيّا أنّ تاريخ التخطيط المدني ليس كلّه إنسانياً بل جزء منه كان له علاقة بالسيطرة والتحكّم وضبط الأوضاع على الأرض، وهو اكتسب معناه الحديث في ما بعد. «إذ مثلاً مخططات الطرقات الواسعة في باريس لم تنشأ كلّها في الأجيال السابقة من أجل راحة الناس، بل أنشئت كذلك لتسمح بتدخّل السلطة بآلياتها وحشودها، براحة، في أوقات شعرت فيها السلطة الفرنسية بخطر تظاهرات محدقة. ومن أجل تدخّل «أكثر راحة» لدباباته، أصرّ الجيش اللبناني على أن تكون الطرقات واسعة في المخططات التي وضعت لإعادة إعمار مخيّم نهر البارد في الشمال، والتي أشرف عليها بنفسه. أمّا الحدائق فلم تكن بداية في الغرب إلّا جزءاً من العقارات الملكيّة، بدأت تكتسب معنى آخر مع الثورة الصناعية وما حملته معها من تلوّث واكتظاظ في العواصم، فأنشأ الفكر الرأسمالي الحدائق العامة اعتقاداً منه أنّ تعرّض العامل للشمس وجلوسه في الحديقة بعد دوام العمل سيعيدانه في اليوم التالي إلى الدوام بزخم أكبر». لم تنجح برأي شيّا هذه المهمّة ولم تكتسب الحديقة العامة المعاني الحديثة في الغرب، التي نعرفها اليوم، إلّا مع وصول الرخاء الاقتصادي إلى القارّة العجوز، عندها أصبحت المساحة الخضراء مصدر ترويح عن النفس. من هنا يرى شيّا أنّه لا يمكننا أن نتوقّع من المساحة العامة أن تمنحنا ميزة التفاعل والنقاش والتقارب بين بعضنا، بل إنّ تحسّن الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية هو الذي سيعطي المعاني الإيجابيّة للمساحة العامة. هنا أيضاً يؤكّد خيّاط على فكرة شيّا مذكّرا بأسواق بيروت قبل الحرب الأهليّة والتي كانت بنظره خير مثال على اجتماع واختلاط اللبنانيين، بما أنّها كانت مساحة لقاء لهم جميعاً، أكثر من ذلك كانت لهم مصالح مباشرة ومتداخلة في ما بينهم هناك، ومع ذلك عندما اندلعت الحرب الأهليّة، شهدت المنطقة نشوء أولى خطوط التماس فيها.
نتساءل هنا إن كان التواصل أو النقاش يحتاج إلى مساحة عامة كي يحصل أم أنّ عدم وجود المساحة العامة يعيقها؟ يجيب هنا شيّا بأنه إذا لم يحقق اللبنانيون هذا التواصل في شوارعهم المتلاصقة، والتي وجدوا طرقاً عديدة لتقسيم أنفسهم طوائف ومذاهب فيها، فإنّهم لن يحققوه في الحرج. ويضيف «يكفي أن ننظر إلى ميداني التحرير ورابعة العدوية في مصر حتى نعرف أنّ أفكار وحاجات الناس تقودها إلى أن تخلق ما تحتاج إليه. فهذان المكانان ليسا عامّين لكن الناس جعلتهما يكتسبان هذا المعنى عندما احتاجت إليهما».
النقاش يبقى مفتوحاً في هذه القضية لكنه لا يدعو بأي شكل إلى التخوّف من فتح حرج بيروت. على العكس تماماً، بل هو يقود إلى التفكير في كيفيّة فتح حرج بيروت وبأسرع وقت. لكن الأكيد أنّ الحرج يحتاج إلى كادر ليحميه ويحافظ على كل ما فيه. لذلك كان من المفترض أن تقوم بلدية بيروت بواجباتها في هذا المجال، باعتبارها المسؤولة عن تحضير دفتر للشروط وفتح باب المناقصة من أجل ادارة الحرج وحمايته، وهو ما التزمت بانجازه في شهر حزيران الماضي. لكن حزيران ولّى ولم يتمّ ذلك. إذ يبدو أنّ هناك «اسباباً غير معلنة» حالت دون ذلك. قد تكون هذه التعقيدات مرتبطة بخلافات البلدية مع محافظ بيروت بالتكليف ناصيف قالوش، كما خلافات أخرى داخل البلدية نفسها. يقول محمد أيوب إنّ البلدية ستعمد إلى حلّ المشكلة باللجوء إلى جهات خارجية للمضي قدماً بالمشروع، إذ سيطلب حمد من Ile de France، التي التزمت سابقا إعادة تأهيل الحرج، أن تحضّر دفتر الشروط، حتى يفتح باب المناقصة. كما وعدت البلدية بالمباشرة بوضع المواد الصلبة في الحرج، الأمر الذي تأخّر أشهراً أيضاً حتى الآن.