قبل أيام، وصل محمود إلى العدلية في بيروت، على موعده تماماً، للمثول أمام أحد القضاة. سأله الموظف ماذا تريد؟ أجابه بأن لديه موعداً، وأخبره باسم القاضي. فكان الرد: «القاضي لم يأت اليوم، وبحسب علمنا لن يأتي». حسناً ماذا أفعل الآن؟ سألهم. كان عليه أن ينتظر لبعض الوقت حتى يُحدد له موعد آخر بعد أسبوع.
في المناسبة، هذه هي المرة الثانية التي يحضر فيها المواطن، المدّعى عليه، ولا يجد القاضي في عمله. في المرتين قال له الموظفون إن القاضي لديه عمل آخر! كأن عمله في عدلية بيروت «صدقة لوجه الله»! وكأن الحضور إلى مكتبه في العدلية منّة منه على الناس وليس عملاً يتقاضى مقابله راتباً شهرياً.
لطالما اشتكى القضاة من دخلهم المحدود، ومن سوء أوضاعهم المالية، خلال السنوات الأخيرة. لكن قبل حوالى عامين، أقرّ مجلس النواب لهم مضاعفة رواتبهم، فقيل آنذاك إنه لم يعد لديهم حجّة تبرر «قلة المروّة». في الواقع، منذ ذلك التاريخ حتى اليوم لم تتحسن إنتاجية القضاء. القضاة هم ذاتهم. من كان منهم نشيطاً ما زال على نشاطه. بعض هؤلاء يأخذون معهم الملفات إلى منازلهم، مثل بعض قضاة الجنايات، تلك المحكمة التي تلقى كماً كبيراً من القضايا أخيراً. ومنهم من لا يزال «قليل المروّة» كما كان قبل سنتين، يأتي متأخراً إلى مكتبه، وهو طبعاً لا يأتي كل يوم، وأسهل كلمة تقال للمواطن المتقاضي «عليك أن تأتي الأسبوع المقبل ليكون القاضي هنا». يمكن أن يحصل هذا في قصر العدل في بعبدا مثلاً، بينما منزل المواطن في بيروت، أو ربما أبعد. الفكرة أن المتقاضي ليس جاراً لقصر العدل حتى تكون العودة بهذه السهولة. الكل يعلم أن أي معاملة من معاملات قصر العدل، يحتاج المواطن إلى أن يأخذ عطلة من عمله على حسابه حتى يتمكّن من إنجازها. يمكن أن تقف ساعات طويلة في طابور، قبل أن يأتي دورك على الشباك، وكل ذلك من أجل أن تدفع قيمة محضر ضبط مخالفة. مشهد هذا الطابور يعرفه كل من ذهب إلى قصر العدل في بعبدا يوماً، ومرّ، تحديداً، بجانب مكتب القاضي المعني بشؤون السير، الذي لا يحضر كل يوم.
أين التفتيش القضائي من كل هذا؟ هل ما زال يكتفي القائمون على التفتيش بعقوبات «اللوم» و«التنبيه»؟ المعنيون بالمحاسبة لا يجهلون هذا الواقع، يعرفونه تماماً، والملفات عندهم مكدسة، ولكن لسبب لا يفهمه أحد تبقى الأمور على حالها. متى كانت آخر مرة جال فيها قضاة التفتيش في قصور العدل؟ كم جولة يجرون خلال العام؟ كل هذا برسمهم، وبرسم مجلس القضاء الأعلى، وطبعاً برسم وزير العدل.