اسمها نور. هي قالت ذلك. وهي تعرف أنها كذبت. لكنها فعلت ذلك هرباً من ألسنٍ تربصت بسيرتها. اختارت اسماً لتهرب. قد لا يكون بجمال اسمها الحقيقي، إلا أنه يشبه كثيراً وجهها الملائكي. قد لا يبدو مهماً هذا التفصيل بالنسبة إلى أي منا. لكن بالنسبة إلى نور هو الأساس لتجرؤ على رواية القصة التي صارت عليها حياتها بعد التشرد المبكر من الحارة الدمشقية.
نور، الطفلة التي لم تكمل بعد الخامسة عشرة من عمرها، تطلّقت قبل ستة أشهر من زوج يكبرها بثلاثة وعشرين عاماً. تفصيل قد لا يهم الكثيرين. لكنه، بفظاظة سنواته، قلب حياتها، وهي التي صارت امرأة على غفلة من طفولتها. كيف أصبحت نور كذلك؟ كيف كانت ستحمل طفلاً بين ذراعيها وهي التي لم تترك طفولتها بعد؟ كيف لقّنوها معنى الشراكة، وهي التي لم تكن تعرفها إلا على صورة والدها ووالدتها؟ من المسؤول عن كل ذلك؟ أحداث بلدها؟ «السترة» التي يبحث عنها والداها؟ ضعفها كأنثى؟ رغبة «المغتصب» فيها؟
كل ذلك اجتمع في حكاية نور. قد يجد البعض القول بأنهم «اغتصبوها» مبالغاً فيه، ولكنهم فعلوا ذلك عندما زوّجوها «وحشاً» في عمرٍ مبكرة، سواء أكان بدافع «حماية الشرف» أم الضائقة المادية أم أيّ مسمى آخر. استحالت نور امرأة وكادت أن تصبح «عاهرة»، بسبب توافق كل هؤلاء. فكيف بدأت قصتها مع زواجها القسري المبكر؟
قبل عامين من الآن، نزحت نور مع والديها وشقيقتيها إلى لبنان. خرجوا من هناك بلا شيء، كغيرهم من الهاربين من جحيم الموت. ولأنهم خرجوا كذلك، لم يستطع الوالد تأمين مأوى لائق لعائلته، فاستأجر لهم جزءاً من مخزن في إحدى المناطق في عكار. وليتخيّل الكثيرون كيف يكون العيش داخل مخزن لا يزوره النور أبداً. مع ذلك، عاشت نور وعائلتها على أساس أن العيش في العتم «أهون من أن ننام في العراء»، تقول.
مرّ الشهر الأول. سدّد الوالد الإيجار بشق النفس، وبعدها لم يعد قادراً على السداد. فبالكاد كان يكفيه الدوران على الطريق بحثاً عن عمل لسداد الرمق. أعلن الوالد عجزه. في تلك الفترة، كانت العائلة قد تعرفت إلى الجيران «قالوا لنا عنّا شاب بدّو يتزوج، زوجوه بنتكم ويساعدكم». لم يكن في البال هذا الخيار أبداً، ولكن «الظروف التي وُضعنا فيها دفعت والدي إلى القبول». مع ذلك، قد لا يبدو هذا التفصيل، على بشاعته، هو أسوأ ما وصلت إليه تلك العائلة. ففكرة «العرض والطلب» على الفتيات راجت أخيراً في مجتمع النازحين السوريين الذين اضطر بعضهم إلى تزويج بناتهم في سن مبكرة «لحمايتهن» من ظروف العيش القاسية. تخيلوا الموقف: حضر الشاب الراغب في الزواج وطلب من الوالد عرض بناته الثلاث لاختيار واحدة منهن. لم يجد الوالد حينها خياراً آخر، أو ربما لم يكن في وارد البحث عن خيار آخر. عرض بناته ببساطة مفرطة وترك الوحش يختار فريسته. اختارها هي. كانت لا تزال في عمر الرابعة عشرة. لم تفهم يومها موافقة والديها تحت حجة «القسمة والنصيب». ولكنها رضيت بما قسماه لها وتزوجت من أجل أن يقوم هذا الأخير «بمساعدة أهلي لأنه كان زنكيل شوي». تزوجت وانتقل والداها للعيش «فوق الأرض»، ولم تتقبل هي فكرة الوجود «مع حدا بعمر أبي». مع ذلك بقيت لأنه «كان يدفع إيجار غرفة أهلي». لكنه، في لحظة ما، قرر التوقف، وبدأت نور تشعر بأنه «لم يكن يريد أن يتزوجني وحدي، فقد بدأ يأتي بأصدقائه إلى المنزل ليروني، وصار يتركني معهم ويرحل، بس بعدين هربت لعند أهلي». لم يستمر هربها 20 يوماً، فقد أعادها الأهل إلى زوجها الذي عاد عن توبته وصارحها بما يريد «بس مشوار صغير مع رفيقي وبتجيبي مصاري إلك ولأهلك». هربت مرة ثانية بمساعدة الجيران بعدما بدأ بضربها، طالبة الطلاق، فكانت المفاجأة «بمطالبة أبي بكل ما دفعه عليّ وعليهم كي يطلقني». لم يعد مهماً السيناريو التالي الذي حرمت فيه نور من اسمها الحقيقي وطفولتها وصار اسمها مطلقة. المهم هنا هذا السؤال: هل كان الأمر يحتاج إلى الوصول لهذا الدرك كي يأخذ الأهل قراراً بإعادة الطفلة إلى بيتها؟ وهل الضائقة المادية تبرر تزويج الأهل لابنتهم القاصر، بعرف القانون، كي يستمروا في العيش؟ ألم يكن ثمة مجال آخر لسد العجز؟ أم هو الاستسهال؟
هل هي نور وحدها التي اختبرت هذه التجربة المرّة في «عمر المراجيح»، كما تقول هي؟ اليوم، بعد عامين وأكثر من النزوح، صارت قصة نور واحدة من بين مئات القصص. فتيات بعمر نور وربما أصغر تزوجن باكراً وصرن مطلقات. منهن سارة، الصغيرة التي أجبرت على ترك خطيبها الذي مات لاحقاً في سوريا وزُوّجت رجلاً يكبرها بثلاثين عاماً. المؤلم في تلك الحكاية أن سارة ولدت طفلاً، وهي في السابعة عشرة من عمرها، ولم تره. والمؤلم أكثر أن مغتصبها تركها بلا أمل. بالدارج، «لا معلقة ولا مطلقة»، إشباعاً لرغبة الذكورة وإمعاناً في تعنيفها. اليوم، صار عمر ابن سارة عاماً ونصف العام، وهي لا تعرف اسمه. هذه أقصى درجة من الألم قد يصل إليها إنسان. وإن سأل أحد: ما الذي حلّ بسارة؟ أسكتوها، فقد صارت مطلقة الآن، أما الوحش فقد تزوج أخرى.
أما الثالثة فهي مرام. هذه الطفلة كانت الزوجة الثالثة للرجل الذي أتى بحجة مساعدة أهلها لإخراجهم من الضائقة المادية. تزوجت ولم تفهم. حملت ولم تنجب طفلاً «خوفاً من أن يعيش ما عشته أنا، خصوصاً إن ولدت أنثى». الآن، تطلّقت مرام، «لأنني كنت أراه مخيفاً»، وهي اليوم تعمل «شو ما بيطلع بطريقي، بشطف الدرج وشو ما يعطوني». المهم أنها في الزواج المقبل، «لن أقبل لأجل عائلتي، بل لأجلي أنا».
حكايا 3 فتيات تزوجن في عمر مبكر ودفعن الثمن. مع ذلك، قد يتساءل البعض عن سبب رضى الأهل بهذا الزواج، وقد يأتي الجواب صادماً «سترهن» أو «همّ المعيشة وخصوصاً الإيجارات»، بحسب الشهادات التي خرجت بها رلا المصري، مسؤولة برنامج المساواة بين الجنسين في مؤسسة «أبعاد». وبحسب المصري «بدا الحل لكل المشاكل ينحو صوب الزواج المبكر». وهنا يشير أيمن الحريري، مدير مكتب عكار في تنسيقية اللاجئين السوريين، إلى أن «ظاهرة الزواج المبكر بين اللاجئين السوريين سببها الأول هو الفقر والعوز المادي وتبعات النزوح والخوف من بعض الأهالي على بناتهن أيضاً». سببان كافيان ليتخذ الأهل القرار المقيت. لا أكثر ولا أقل. ولكن الحريري يشير الى أن بعض الحالات كانت «زواج بيع وشراء ومقايضة واستغلال وإتجار مقنع»، فيما تشير المصري الى بدعة الفتاوى تحت حجة «ستر البنات، ومناداة البعض بأن هناك شباباً مستعدين ليتزوجوا البنات بهذا الدافع».