تحول مدخل المبنى المقابل لمسجد بلال بن رباح في عبرا، إلى لوحة إعلانية ضخمة. هنا إعلان لتعهدات أعمال بناء ودهان مذيلة بأرقام هواتف، وهناك إعلان لنجّار سجل رقم هاتفه وآخر لورشة متخصصة بتركيب النوافذ والأبواب. إلى جانب إعلانات لمعارض مفروشات وسيراميك وإلخ... هكذا تحول الحي السكني الذي كان محسوباً على الميسورين، إلى فرصة ذهبية لأصحاب المهن والحرف ليسترزقوا. إنه موسم عبرا بالنسبة للدهان والبلاط والنجار والبناء. بعض هؤلاء يوصفون بمشاريع «أثرياء الحرب» في إشارة إلى خطوة أصحاب الورش برفع أسعار المواد المستخدمة وبدلات أتعابهم.
المربع الأمني الممتد على مئات الأمتار تحول إلى ورشة ترميم ضخمة. جميع المباني المحيطة بمسجد بلال أسقطت فوق واجهاتها سقالات ودعائم حديدية حيث يتعلق عمال بها يومياً بدءاً من السابعة والنصف صباحاً حتى السادسة مساء. يزيلون الركام وينزعون الأبواب والنوافذ المتضررة ويسدون الثغر التي أحدثتها القذائف والرصاص في الجدران. ومن فوق الأسطح يرمون خزانات المياه المثقوبة وحبال الغسيل المحترقة. السقالات تشد لافتة شكر للرئيس سعد الحريري الذي، بحسب اللافتة، تبرع بهبة مالية لترميم واجهات المباني المتضررة على نفقته الخاصة. صور الحريري المبتسمة طلعت من بين الثقوب والركام قبل أن يلمس المستفيدون شيئاً من خيراته. أما ذراعه التنفيذية «جينيكو» فقد تحولت إلى شعار المرحلة في عبرا. اسمها يتكرر على المباني والرافعات والجرافات والسقالات لكي يعلم القاصي والداني أن آل الحريري يعمّرون عبرا التي «هدمها الجيش وحزب الله».
الحملة الإعلامية التي أطلقتها النائبة بهية الحريري عن إعمار عبرا تسببت في لغط في أذهان الناس حول آلية العمل ومصادر التمويل. من يستمع إلى تصريحات سيدة مجدليون أمام زوارها وعقدها لقاءات عدة للمتضررين في دارتها، يظن أن آل الحريري يرممون ويعمرون ويفرشون الأثاث على نفقتهم الخاصة من الألف إلى الياء. لكن تبين أن خيرهم اقتصر على طلاء واجهات المباني والباقي ستدفعه الحكومة من الخزينة، أي من جيوب اللبنانيين.
في حديث لـ«الأخبار» أوضح رئيس بلدية صيدا محمد السعودي أن مسح الأضرار الذي نفذته «جينيكو» بتلزيم من مجلس الإنماء والإعمار وبالتنسيق مع لجنة من الجيش، أحصى وجود 530 شقة متضررة و50 محلاً و150 سيارة و66 عائلة تحتاج إلى إيواء بديل عن شققها التي لا تصلح للسكن. بعد إنجاز المسح، أبدت النائبة الحريري استعداد شقيقها شفيق عبر «جينيكو» لترميم واجهات المباني على نفقة العائلة «لتوفير الوقت وإجراءات التلزيم والمناقصة الرسمية» بحسب السعودي. أيضاً التزمت «جينيكو» من الهيئة العليا للإغاثة الترميم الإنشائي للمباني التي تضررت أساساتها، على نفقة الحكومة من دون استثناء المبنى الذي تقع فيه شقق حزب الله. الهيئة ستصرف تعويضات نقدية عن الأثاث والأضرار الداخلية في الشقق. أما الجماعة الإسلامية فقد دفعت ألف دولار لـ30 عائلة بدل إيجار موقت لمدة شهرين. مؤسسة الحريري للتنمية المستدامة دفعت ألف دولار أيضاً لـ36 عائلة. هناك دور لجمعية فرح العطاء من خلال ترميم واجهات ثلاثة مبان حالياً من خلال متطوعين وحملة «معاً نرمم الجراح» التي أطلقتها الجماعة لتنظيف وإزالة الركام من الشقق والشوارع. كلفة إعادة إعمار عبرا تتراوح بين 17 و20 مليون دولار، بحسب السعودي.
وسط ضجيج الرافعات والإزميل وتكسر الحجارة، وقف عدد من السيدات يراقبن عن بعد الورش القائمة في منازلهن. هن لم يعدن من سكان هذا الحي. الأضرار الكبيرة في شققهن أجبرتهن على اللجوء إلى منازل أقرباء لهن في عبرا والهلالية وصيدا ومجدليون. تقرّ إحداهن بأن «التهجير» كشف لها أن بعضاً من جيرانها هم من صور والعرقوب وبنت جبيل والنبطية وقد استغلوا العطلة الصيفية وانتقلوا إلى الإقامة لدى أهاليهم وأقاربهم ريثما تنتهي ورشة الترميم. بين هؤلاء من قرر عدم العودة إلى عبرا ما بعد أحمد الأسير.
في مبنى يقع في شارع متفرع من مسجد بلال، تقوم سيدة وبناتها بجمع أغراضهن وتوضيب أثاث المنزل تمهيداً للانتقال إلى سكن آخر بعيد عن عبرا. ليست السيدة من أنصار الأسير الذين كرهوا العيش في عبرا من دونه، وليست من أنصار حزب الله الذي أخلى شققه المجاورة. هي لم تعد على قناعة بأن السلام عاد ليسكن في عبرا كما كان. تتوقع هذه السيدة جولة جديدة من الاشتباكات ما دام مسجد بلال لم يقفل. ولإقناعنا بصوابية توقعاتها، تدلنا على الملصقات التي علقت على أبواب المسجد: «هذا المسجد لأهله»، «الله يحميك شيخ الأسير»، «المسجد لا يرممه إلا أهله». أما على شرفة منزل الأسير المحترق قبالة المسجد، فقد علقت زوجته أمل شمس الدين لافتة تخبر بأن زوجها راجع «لأن صوت الحق لا يضيع والإرادة لا تنكسر». منزل الأسير ومكتبه الملاصقان يحتاجان لورشة ضخمة لإعادتهما كما كانا. جدرانهما المتهاوية ونوافذهما المخلّعة وغرفهما المحترقة في الطبقة الأولى من المبنى، باتت مفتوحة أمام الناظرين. شمس الدين تتفقد المنزل يومياً مع عدد من أنصار زوجها وتتقاسم مع جيرانها الحلفاء والأعداء، مصيبة الخراب. تجمع أغراضاً وتوضب كتباً بعثرتها القذائف التي استهدفته. في المقابل، تعمل زوجة أحد مرافقيه محمد الصوري على إعادة افتتاح الدكان وبسطة الخضر التي كان يديرها لمصلحة الأسير. الصوري متوار عن الأنظار مثل شيخه. أما زوجته المنقبة، فتنهمك في ترتيب الدكان لتشغل باب رزقها بغياب زوجها. جارتها «السافرة» صاحبة محل «اللانجري» أخذت على عاتقها تصليح الأضرار في محلها. تقول مع صديقتها المقيمة في مبنى المسجد، إن أهم ما في الأمر «أننا تخلصنا من الأسير وإجراءاته الأمنية ومن خيمته التي كانت تقفل على قلبنا وتحجب نور الشمس، برغم أن الثمن كان باهظاً».