أظهر المجتمع الأردني قدرة «عبقريّة» على إعادة إنتاج الأنظمة الانتخابية الحديثة، والأردنيين ـــ الفلسطينيين، والتيارات السياسية والأحزاب، عشائرياً. لقد أظهرت نتائج الانتخابات النيابية (الأربعاء الماضي) أن الغالبية الساحقة من مقاعد الدائرة الوطنية (على نظام القائمة النسبية) حصدتها قوائم شكّلتها عشائر كبيرة من دون برامج سياسية ولا حتى حملات إعلامية. وبالنسبة إلى التمثيل الأردني ـــ الفلسطيني، سواء على مستوى الدوائر الفردية أو على المستوى الوطني، فإن حصة الأسد ذهبت لأولئك الذين قلّدوا الشرق أردنيين، بإحياء روابط الدم القديمة (خصوصاً من منطقتي قضاء الخليل وبئر السبع) وتنظيم أنفسهم على أسس عشائرية. أما التيارات والأحزاب، بكل أطيافها، بما فيها اليسارية، فقد حصلت على معظم مقاعدها القليلة، كذلك، بقوة الدفع العشائري.
على ضوء هذه النتائج، قلّبتُ جميع الأنظمة الانتخابية المعروفة عالمياً لاقتراح صيغة تكسر القيود العشائرية على العملية الانتخابية، فوجدتُ أنه يمكن، دائماً، لعشيرة واحدة تعدّ نصف مليون مواطن، مثلاً، أن تحصد ضعف حصتها النسبية أو أكثر، كما هو حاصل الآن. رابطة الدم هي الرابطة الفعالة الوحيدة في ديموقراطية انتخابية في بلد كالأردن. عند هذه النقطة، ينبغي على التقدمي الأردني أن يفكر بالضرورة الوطنية الاستثنائية لوجود مؤسسة حديثة فوق عشائرية في البلاد، هي مؤسسة الجيش، الضمانة الوحيدة لوحدة المجتمع والدولة.
لا يمكن، بالطبع، إهمال قوة الدفع الأخرى المتمثلة بالرشى المالية والمصلحية للمقترعين. ولكن تبين أن المال الذي لا يستند إلى عصبية عشائرية أو جهوية أو إتنية، ليس بذي قيمة سياسياً. في المقابل، فإن مرشحين فاسدين معتقلين بالفعل بتهمة شراء الأصوات، سيفوزون من وراء القضبان، بسبب الدعم العشائري أو الجهوي الذي يستندون إليه.
كنّا، طوال الفترة السابقة، نخدع أنفسنا بالقول إن المنتج الانتخابي رديء سياسياً بسبب التزوير الحكومي والتدخل الأمني في العملية الانتخابية، لكن جاءت انتخابات 2013 النزيهة والمضبوطة بصورة قياسية، لتضعنا أمام الحقيقة العارية؛ فحين غابت قوة العامل الحكومي الأمني، ظهرت قوة الروابط العشائرية كمعطى اجتماعي سياسي أصيل وقاهر. حتى المال والإعلام يظلان عاملين ثانويين هنا، ولم يتجاوز تأثيرهما حدود الـ 10 في المئة.
تحقيق مطلب الإخوان المسلمين في تعديل قانون الانتخابات لا يغيّر في المعادلة، ولكنه سيسمح، لا غير، بزيادة حصة الأردنيين ـــ الفلسطينيين. وقد بنى «الإخوان» مجدهم ونفوذهم السياسيين، كونهم يمثّلون هؤلاء. لكن انتخابات 2013 أظهرت أن هذه اللعبة قد انتهت؛ فبينما قاطع «الإخوان» العملية الانتخابية مقاطعة نشطة، ردّ الجمهور الأردني ـــ الفلسطيني بسلوك سياسي مضادّ، أي بمشاركة كثيفة غير مسبوقة (40 في المئة صعوداً من 29 في المئة)، ما رفع النسبة الكلية للاقتراع، فوق التوقعات الحكومية، إلى حوالى 56 في المئة.
هزيمتان قاسيتان للإخوان المسلمين: نجاح الانتخابات النيابية من حيث النزاهة والانضباط ونسبة المشاركة، وكثافة المشاركة الأردنية ـــ الفلسطينية على الضد من تحشيد إخواني فاشل، تلته بيانات تشكيك في العملية الانتخابية لم يلتفت الأردنيون إليها، بسبب ركاكتها ومجافاتها للوقائع، بينما ظلت تحوز اهتمام وسائل الإعلام العربية والدولية. وهذه ما تزال تصرّ على أوهامها حول قوة الإخوان المسلمين الأردنيين الذين تلقوا، من داخل صفوفهم هذه المرة، ضربة موجعة جداً؛ فالمجموعات الإخوانية ذات الميول الوطنية الأردنية، والمؤتلفة في ما يُعرَف بـ«المبادرة الأردنية للبناء»، شنت، قبيل الانتخابات، هجوماً عنيفاً على القيادة الأصولية ـــ الحمساوية المسيطرة على الجماعة، واتهمتها، علناً، بالاتجار بالقضية الفلسطينية وإقصاء المعارضين واستخدام الرشى المالية في الانتخابات التنظيمية الداخلية للجماعة. ويُضاف إلى هذا الانشقاق الداخلي، انهيار التحالف مع «الجبهة الوطنية للإصلاح»، بزعامة رئيس الوزراء السابق أحمد عبيدات. لقد صُدمَتْ الجبهة من تصريحات المراقب العام للإخوان، الأصوليّ همّام سعيد، حول هدف إقامة دولة الخلافة في البلاد. فبالنسبة إليها، يظل الهدف، وفقاً لتصريحات الناطق باسمها، «إقامة دولة مدنية تعددية ديموقراطية»، لا دولة دينية.
ربح النظام الأردني، من خلال سلسلة من التنازلات والسياسات المرنة إزاء القوى الاجتماعية التقليدية والجديدة، معركته مع الإخوان المسلمين الذين انتهوا إلى التفكك والعزلة، وربح المجتمع الأردني التقليدي معركته في إعادة تعريف التحوّل السياسي في البلاد، وفقاً لمنظومته العشائرية، ما يجعلنا نواجه، مجدداً، حقيقة الاستعصاء الديموقراطي في بلد عشائري.
سبق أن طرحنا حلاً لهذا الاستعصاء، يتمثل في ما سمّيناه «الديموقراطية المضادة» (الأخبار، 1 أيار 2012) وهو مفهوم نضالي يقوم على استمرارية الحراك الشعبي كقوة ضغط ميدانية لتحقيق المطالب الاجتماعية والجهوية، ومراكمة القوى لإحداث التغيير التقدمي في المجال السياسي والتنموي.