للمرة الثانية خلال أقل من عام، ترفع الحكومة السورية أجور العاملين فيها، سعياً لتحقيق التوازن بين القدرة الشرائية للمواطن وتأمين الحاجات والخدمات الأساسية، لكن من دون جدوى؛ إذ سرعان ما تبتلع زيادة الأسعار الرسمية وغير الرسمية قيمة زيادة الرواتب. ويتزامن كل مرسوم رئاسي برفع رواتب العاملين في الدولة والمتقاعدين، مع إصدار وزارة التجارة الداخلية لعدد من القرارات التي تستهدف زيادة أسعار المحروقات والغاز والخبز بنسب متفاوتة، فضلاً عن قرارات بزيادة أسعار الاتصالات والإنترنت والكهرباء، وما يرافقها من ارتفاع في أسعار الكثير من السلع في الأسواق والخدمات الخاصة. وفي مقابل الضبابية التي تحيط مسألة تعديل سياسة الدعم الحكومي أو إلغائها، يستمر الاستياء الشعبي العام جراء عدم قدرة الحكومة على ضبط إيقاع اقتصاد البلد لتحقيق الأمن الغذائي لمواطنيها على الأقل، والذي بات معدوماً لأكثر من نصف السكان، وفقاً لتقارير أممية، فيما يبلغ متوسط تكاليف المعيشة لعائلة مكوّنة من خمسة أفراد حوالي 900 دولار، وفقاً لجريدة «قاسيون» المحلية، علماً أن الحد الأعلى لرواتب موظفي الدولة يبلغ حوالي 35 دولاراً.

الخبز ينزل عن الرف
حتى الخبز لم يعُد «خطاً أحمرَ» في سوريا؛ إذ قررت الحكومة مضاعفة سعر ربطته بحجة أن «ارتفاع تكلفة تأمين الخبز وصل إلى معدلات غير مسبوقة، بفعل جملة من الظروف، منها خارجية كارتفاع أسعار القمح ومستلزمات صناعة الخبز، وتعقيدات طرق التجارة البحرية والبرية، ومنها محلّية مرتبطة بخروج مساحات واسعة من الأراضي المخصّصة لزراعة القمح من الخدمة، وكذلك آبار إنتاج النفط، وارتفاع فاتورة إصلاح وترميم المنشآت والمخابز والبنية التحتية الخاصة بإنتاج الخبز». ومع ذلك تؤكد الوزارة أنّ المواطن يتحمّل حوالي 5% فقط من التكلفة. وفي السياق، تتساءل رؤى: «كيف لطبقة من الشعب السوري تعيش على الخبز فقط، أن تستمر في الحياة في ظل ارتفاع سعره؟»، فيما تشير غادة إلى أنّ الحكومة «تمنن» شعبها بدعمها لمادة الخبز رغم الكمية غير الكافية والنوعية السيئة في الكثير من الأحيان. وتضيف: «لا نريد خبزاً مدعوماً، نريد أجوراً تؤمّن لنا الخبز بتكلفته الحقيقية وغيره من الأساسيات».
من جهته، يشير الخبير الاقتصادي، محمد كوسا، إلى أن «زيادة الرواتب محكومة بتوفر المبالغ اللازمة لها، والتي يمكن أن يُرصد بعض منها من رفع أسعار المشتقات النفطية والكهرباء وغيرها من الخدمات، وبالتالي لا يمكن أن توازي زيادة الرواتب رفع الأسعار»، مضيفاً، في حديث إلى «الأخبار»، أنه «غالباً ما يأتي رفع الأسعار بشكل مجزّأ ومتتالٍ ويؤدي إلى استجرار زيادات غير رسمية من قبل التجار وأصحاب المهن ومقدّمي الخدمات، ما يتسبب بتراكم زيادات سعرية غير منطقية، ويشكل فجوة لا يمكن لرفع الرواتب تغطيتها». وفي السياق نفسه، يقول الدكتور زياد عربش (أستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق)، في حديثه إلى «الأخبار»، إن «رفع أسعار عدد من المواد (منها مشتقات الطاقة والخبز) بالتوازي مع زيادة رواتب الموظفين العاملين في الدولة والمتقاعدين، يأتي لمواكبة تطور المؤشرات الاقتصادية وسعياً لتحقيق التوازن المطلوب بإلحاح لدى معظم شرائح المجتمع، بين القدرة الشرائية وتأمين الحاجات الأساسية»، موضحاً أن «سعر مادة الخبز يُعدُّ الأرخص مقارنة بالسلع الغذائية المدعومة».

الكهرباء ما زالت مدعومة!
تضمّن قرار وزارة الكهرباء الأخير، رفع تسعيرة الاستهلاك المنزلي والصناعي للكهرباء، بزيادة قدرها 400% للشريحة الأقل استخداماً، و200% للشريحة الأكثر استخداماً. ومع ذلك، أبقت التعرفة الجديدة الكهرباء المنزلية ضمن إطار الدعم الحكومي، كونها أقل من التكلفة وفقاً لتصريحات وزير الكهرباء غسان الزامل، الذي أشار إلى أن سوريا تنتج حالياً ثلث احتياجاتها من الكهرباء فقط، وأن استراتيجية وزارته تقوم على إعادة تأهيل منظومة الكهرباء ومحطات التوليد وإجراء الصيانة المطلوبة وتحسين عدد ساعات التغذية، بالإضافة إلى تنويع مصادر الطاقة من خلال التوجه إلى مصادر الطاقة المتجددة كالشمس والرياح. لكن أكثر ما يعترض عليه المواطنون هو شحّ الكهرباء لا تكلفتها الجديدة، وخاصة مع انتشار تجارة الأمبيرات، إذ تقول فاطمة: «حبذا لو يكون رفع أسعار الكهرباء متناسباً مع تقليل التقنين، لأنه ليس من المنطق أن ندفع فاتورة كهرباء بأرقام مرتفعة لخدمة لا تصلنا إلا في ما ندر».
وفي السياق، يوضح كوسا أن «شرائح استخدام الكهرباء الأولى والثانية والثالثة ما زالت نوعاً ما ضمن نطاق الدعم الحكومي، لكنها فعلياً غير متناسبة مع مستوى متوسط دخل الشريحة الكبيرة من الأسر، والمقدّر بـ350000 ليرة سورية بعد الزيادة الأخيرة، خاصة مع اعتماد أغلب الأسر على الكهرباء كمصدر طاقة مساعد في التدفئة والطبخ والغسيل والاستحمام في ظل شح الحصول على أسطوانات الغاز والمازوت المدعوميْن والمقنّنيْن على البطاقة»، مضيفاً أن «قرارات رفع الأسعار حكومياً تُتخذ فقط بناءً على مصلحة الحكومة أولاً والضرورات الفنية التي تحكمها، لكنها لا تأخذ في الحسبان واقع متوسط الدخول الحالي، والذي بات يلهث وراء ارتفاعات الأسعار الرسمية المتتالية غير المتوازنة مع زيادة الأجور، والأسعار القاسية غير الرسمية التي تتبعها في تكاليف المعيشة».

هيكلة أم إلغاء للدعم
يبدو أنّ الحكومة السورية تعمل تدريجياً على سياسة إلغاء الدعم عن المواد الأساسية، حيث تحرر بين الحين والآخر أسعار تلك المواد مع إعادة تحديد من يستحقون الدعم من غيرهم، مقابل محاولة «تحسين المستوى المعيشي للمواطن حسب توافر الموارد لزيادة الدخول والأجور»، وفقاً لتصريح وزير المالية، كنان ياغي، الذي أشار إلى أن الزيادة الحالية للرواتب بلغت 2.5 تريليون ليرة سورية. ويجد الكثير من المواطنين أن خيار إلغاء الدعم مع رفع الرواتب، بما يتناسب مع الظروف المعيشية، هو الخيار الأفضل في ظل الفجوات الحالية بين القدرات الشرائية والاحتياجات الأساسية للمواطن.
وفي هذا الإطار، يرى غسان، وهو موظف متقاعد، أن سياسة الدعم باتت «مصدراً للفساد والهدر على كلّ المستويات، وأن إلغاءه هو الحل الأفضل لتصبح الحكومة قادرة على تأمين أجور معقولة»، فيما تؤيد مزين رفع الدعم بشكل نهائي، قائلة: «عندما تبدأ السلع بالتحرر تكثر فرص العمل وتُفتح أبواب جديدة لمصادر الدخل، رغم احتمالية وجود طبقة ستكون متضررة من مثل هذا القرار». لكن يوسف الذي يجد أن غالبية الإجراءات التي تقوم بها الحكومة لا تثمر وتزيد الأمور سوءاً، يتساءل: «في حال إلغاء الدعم هل ستكون زيادة الأجور مناسبة للواقع؟ وكيف سيتم حسابها مع الارتفاع المستمر في سعر كل شيء؟».
يبدو أنّ الحكومة السورية تعمل تدريجياً على سياسة إلغاء الدعم عن المواد الأساسية


من جهته، يشدد عربش على ضرورة «إعادة التفكير في منظومة الأسعار ككل سواء للسلع أو الخدمات المدعومة، ومن ثم إعادة هيكلة هذه الأخيرة قبل زيادة أسعارها، لتنتفي بذلك كل مسارب الهدر»، مضيفاً أنه «لا بدّ من خطة متكاملة بمؤشرات قابلة للتتبع والتدقيق بعيداً عن القرارات الآنية - قد يكون لها مبرراتها - التي تصبح معها، في حال الاستمرار فيها لفترات طويلة، مواجهة التحديات أكثر صعوبة، وبالتالي لا بدّ من إرساء منظومة فعّالة للدعم بحيث تنتفي معها كل الممارسات غير المجدية أو الهدر أو عدم الاستغلال الأمثل للموارد رغم ضغوط ندرتها». ويضيف أن «ذلك يكون بالتوازي مع محركَي التنمية الأكثر إلحاحاً، ألا وهما؛ التنمية المحلية بالاعتماد على اقتصاديات المكان وتفعيل دور المجالس المحلية حسب القانون 107 الذي فوضها وضع خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية على المستوى المحلي، والثاني زيادة مستويات التشغيل بالنسبة للشركات متناهية الصغر والصغيرة، كون أي إضافة لفرص عمل جديدة تعني تحقيق مداخيل إضافية، وليس الضغط على المنشآت القائمة، وبالتالي توجيه الدعم إلى نهاية السلسلة، حتى نخرج من معادلة: كل زيادة في الأجور تترافق مع تضخم في الأسعار، وندخل في دائرة توسيع النشاط الاقتصادي للقطاعات العامة والخاصة والأهلية».
أما كوسا فيتوقع أن لا تقدم الحكومة على إلغاء الدعم بشكل نهائي، «لأن مسألة الدعم أعلى من ذلك، فهي مرتبطة بالاقتصاد وفعاليته وآلياته وسياساته ومرتبطة بسياسة الدولة ككل. ومع ذلك، تسعى الحكومة لإعادة هيكلة الدعم وإعادة توزيعه وتوجيهه إلى مستحقيه، لكن خطتها في التطبيق كانت غير مجدية وإفادة الاقتصاد من هذه الأداة حالياً غير ظاهرة».