على نحو متسارع، تزداد الاضطرابات في مناطق سيطرة «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة - فرع تنظيم القاعدة سابقاً في سوريا)، وسط استمرار التظاهرات المطالبة برحيل زعيم «الهيئة»، أبو محمد الجولاني، على خلفية معارك داخلية خاضها مع تيارات عدة داخل جماعته، قبل أن ينتهي به الأمر بنمو التيارات المناوئة له، وتعاظم احتمال تمزّق جماعته. وعلى مدار الأسبوعين الماضيين، شهدت مناطق سيطرة «الهيئة» تظاهرات يقودها عناصر وقياديون فيها كان قد قام الجولاني بالقبض عليهم وتعذيبهم ضمن ما أطلق عليه «ملف العمالة»، الذي شكّل ستاراً تحرّك تحته رجل «القاعدة» السابق للتخلّص من منافسيه على الزعامة، عبر قيامه بملاحقة مجموعة من «رفاق دربه». وأشهرُ هؤلاء، «الجهادي» العراقي أبو ماريا القحطاني (ميسر بن علي الجبوري)، وجهاد الشيخ (أبو أحمد زكور)، وغيرهم من القياديين البارزين الذين أسهموا في محاولة إعادة التسويق لـ«تحرير الشام» على أنها «جماعة معتدلة»، بعد انفصال الجولاني عن تنظيم «القاعدة».وكانت قد تسرّبت أنباء عن إعدام بعض المعتقلين، من بين المئات من العناصر والقياديين الذين ألقى «الجهاز الأمني» في «الهيئة» القبض عليهم خلال الأشهر الستة الماضية، بذريعة نمو شبكة جواسيس وعملاء تعمل لمصلحة أجهزة استخبارات غربية. وأشعل ذلك فتيل خلاف داخلي حادّ بين مكونات «تحرير الشام» الرئيسية، سرعان ما تحول إلى تهديد وجودي لها، خلافاً لما كان ينتظره الجولاني الذي أمل تشديد قبضته الأمنية الحديدية على جماعته. على أن محاولات الأخير نزع فتيل الخلاف عبر إعلانه أخيراً إغلاق الملف، وإطلاق سراح بعض المعتقلين لديه، ومحاولة إسكاتهم بتعويضات مالية تراوحت بين 2000 و5000 دولار، لم تجدِ نفعاً، وخصوصاً بعد أن ظهرت آثار التعذيب الواضحة على معظم المعتقلين، فضلاً عن إدلاء هؤلاء بشهاداتهم الشخصية.
وكشفت التطورات الأخيرة جانباً كان غائباً إلى حد ما، إذ بعدما سعى الجولاني إلى «مأسسة» جماعته بدعم تركي، في محاولة لإنهاء الحالة الفصائلية القائمة، وتهميش المرجعيات الشخصية للعناصر داخل هذه الفصائل، أظهر كثير من هؤلاء ارتباطهم الوثيق بقيادييهم بشكل مباشر، وليس بأي مؤسسة، ما يفسّر التحريض المستمر على خروج التظاهرات في مختلف مناطق سيطرة «الهيئة»، حيث يرفع المشاركون فيها صوراً لآثار التعذيب، ودعوات إلى رحيل الجولاني، بالإضافة إلى المطالبة بإخراج بقية المعتقلين. ورغم محاولة «تحرير الشام» امتصاص الغضب عبر نشر رئيس «مجلسها الأعلى للإفتاء»، عبد الرحيم عطون، بياناً أعلن عبره العمل على إصدار «عفو عام»، ضمن خطوة من سبع خطوات أخرى لإنهاء «ملف العمالة»، من بينها «تشكيل لجنة قضائية»، وتتبّع قضايا التعذيب ومعاقبة المسؤولين عنها، إلا أن تلك الوعود لم تتمكن، حتى الآن، من تخفيف حالة الاحتقان القائمة، سواء على المستوى الشعبي، أو حتى على مستوى مكونات «تحرير الشام» ذاتها. وينذر ذلك باستمرار الأزمة القائمة، وتعمق الشروخ داخل «الهيئة»، في ظل إصرار الجولاني على تحكمه المطلق فيها، وتحول أصدقائه ومساعديه بالأمس إلى خصومه اليوم.
باءت كل محاولات الجولاني لنزع فتيل الخلاف داخل «الهيئة» بالفشل


وفي محاولة لإظهار تمسك الجولاني بالهيكلية القائمة، وتأكيد «سلطة المؤسسات»، التي هي في الواقع سلطة شكلية، أعلن «مجلس الشورى العام» منح الثقة للتشكيلة الوزارية الجديدة في «حكومة الإنقاذ»، برئاسة محمد البشير، بعد تأخير لأكثر من شهر. إلا أن «التشكيلة الجديدة» لم تختلف عن سابقاتها، باستثناء بعض التعديلات البسيطة، وسط وعود أطلقها البشير بزيادة عدد المحاكم ورفع سويتها، والعمل على تهيئة بيئة مناسبة لجذب الاستثمارات، وفقاً لتعبيره. والجدير ذكره، هنا، أن معظم الاستثمارات القائمة تحتكرها «الهيئة»، إلى جانب سيطرتها شبه المطلقة على المشاريع السكنية التي تقوم تركيا بتشييدها قرب الشريط الحدودي بدعم من قطر، التي يقطنها عدد من الشخصيات الداعمة للجولاني.
وبالتوازي مع الأزمة الداخلية التي تعيشها «تحرير الشام»، تشهد خطوط التماس مع مناطق سيطرة الجيش السوري، في منطقة «خفض التصعيد» حيث تنتشر فصائل «جهادية» تابعة لـ«الهيئة»، محاولات إشعال مستمرة، عبر هجمات يقوم «انغماسيون» بتنفيذها. وكان آخر هذه المحاولات شنّ هجوم في ريف اللاذقية، تصدّى الجيش السوري له، معلناً في بيان القضاء على المجموعة التي نفذته. وفي هذا الوقت، يتابع سلاحا الجو السوري والروسي عمليات استهداف مخازن الأسلحة ومواقع تصنيع بعضها، بما فيها الطائرات المسيرة، وهو السلاح الذي حاولت الفصائل استعماله لتغيير قواعد الاشتباك، قبل أن ينقلب ضدها مع استعماله من قبل الجيش السوري لتدمير دفاعاتها وتحصيناتها، بما فيها الأنفاق والمتاريس، بالإضافة إلى ملاحقة أهداف لها في عمق مواقع سيطرتها، وتحقيق إصابات دقيقة فيها. وفي هذا الإطار، أكّدت مصادر ميدانية، في وقت سابق، في حديث إلى «الأخبار»، أن استعمال المسيرات من قبل الجيش السوري «تسبب في حالة إرباك كبيرة» في صفوف المسلحين.