في الشق الثاني، لم يصل الفاتيكان بعد الى مرحلة تسمية موفد بابوي الى البلدات المسيحية الحدودية، على غرار عام 1985 عندما عيّن البابا يوحنا بولس الثاني موفداً بابوياً الى جزين أقام فيها هو المونسنيور سيلستينو بوهيغاز. لكن الكرسي الرسولي يحاول، منذ اندلاع حرب غزة، التعامل مع تطورات الجنوب من زاوية مشابهة، بالتعبير عن الاهتمام والقلق على وجود المسيحيين في المناطق الحدودية، وبالزيارات المتكررة للسفير البابوي بابلو بورجيا للمنطقة بإيعاز فاتيكاني وبمبادرة شخصية منه أيضاً، وبالمشاركة في لقاءات شعبية وفي معظم الاحتفالات الدينية الكبرى، بما يعادل الاهتمام الذي كان يوليه بوهيغاز لمسيحيي المنطقة في تلك المرحلة التي امتدت الى أواخر التسعينيات. والسفير البابوي الذي عرف لبنان في مراحل مختلفة، لا ينفك يبدي اهتماماً متزايداً بما يحصل جنوباً، وهو مدرك اليوم لحجم المخاطر حالياً، ولوضع مسيحيّي الجنوب، ومطّلع بشكل كافٍ ودوري على مشكلاتهم وملمّ بحاجاتهم الإنسانية التي ازدادت حدّتها مع الأزمة الاقتصادية.
مبادرات الكرسي الرسولي في الجنوب تكشف الترهل المسيحي الداخلي الديني والسياسي
وهذا الشقّ يأخذ حيّزاً من اهتمامه، فمعالجة هذه المشكلات المتفاقمة، عدا عن الوضع الأمني المتدهور وخطابه الداعي الى السلام في كل المناطق الحدودية، تساهم في تثبيت المسيحيين في مناطقهم. ودوره اليوم، الذي يحرص عليه، لا ينفصل عن رؤية الفاتيكان لدور مسيحيي لبنان وتأكيد حضورهم في أرضهم، وهو يعكس القلق المتزايد على مصير القرى التي بدأت تعاني منذ بداية المواجهة الحدودية، وستكون عرضة لخطر متزايد مع احتمالات توسع الحرب. والمناطق الحدودية تشكل، بالنسبة الى الكرسي الرسولي، واقعاً مأسوياً، لا يريد له أن يأخذ طابعاً أكثر دراماتيكية، في ظل أوضاع معيشية واجتماعية صعبة، يضاف إليها اليوم شعور بالقلق من المستقبل. وأهمية هذه المبادرات أنها تجد صدى إيجابياً لدى أبناء المنطقة، ممّن هم على تماسّ مع الحرب ويتعلّقون بطوق نجاة يمثّله اليوم السفير البابوي، ويرون خيط أمل في إمكان أن تنجح مساعي الفاتيكان في إبعاد الحرب عن لبنان وعن مناطقهم، فلا يضطرّون الى دفع أثمانها. وبقدر ما لا يجد الفاتيكان في لبنان سعياً مقابلاً يجعل تحقيق حياده عن الصراع أمراً ممكناً، فإن مبادرات الكرسي الرسولي في الجنوب خلال الأشهر الماضية تكشف مرة بعد أخرى الترهل المسيحي الداخلي الديني والسياسي، في مواكبة جدية لأوضاع مسيحيي الجنوب، بعيداً عن الشعارات والحملات السياسية الموسمية.