عنوان هذا المقال مستوحى من عنوان كتاب روبرت بلاكويل: «عقد ضائع: الاستدارة الأميركية نحو آسيا وصعود القوة الصينية»، والذي سيصدر في شهر حزيران القادم. بلاكويل، لمن لا يعرفه، سياسي وديبلوماسي وأكاديمي أميركي مخضرم، عمل لأكثر من 4 عقود لحساب وزارة الخارجية، وفي مجلس الأمن القومي في عهد بوش الابن كمسؤول عن ملف العراق، وهو زميل بارز في «مجلس العلاقات الخارجية»، النادي المفضل للنخب الأميركية المعنية بالشؤون الدولية. بكلام آخر، يأتي كتابه المذكور كمساهمة في نقاش جارٍ بين هذه النخب حول السياسة الخارجية لبلادهم، ومدى اتساقها مع الأولوية الإستراتيجية المعلنة لجميع الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ ولاية أوباما الثانية، وهي التصدي لتعاظم نفوذ الصين على الصعيدين الآسيوي والعالمي. يتضح من العنوان، «عقد ضائع»، أن بلاكويل هو من القطاع الذي يزداد اتساعاً بين هذه النخب، ويضم مسؤولين سابقين وأكاديميين من خلفيات فكرية - سياسية متعددة، ويعتقد بأن واشنطن لم تنجح في إخضاع سياستها الخارجية لأولويتها المشار إليها، وأن استمرار ذلك الواقع يشكل تهديداً جدياً لموقع الولايات المتحدة «الريادي» على المستوى الدولي. وما يعزز هكذا تهديد، هو سياق احتدام النزاعات الدولية الراهن، و«التورط» المتنامي لواشنطن فيها.رأى روبرت بلاكويل، في مقابلة نُشرت على موقع «ذي ديبلومات»، أن الإجماع الذي حظي به هدف «الاستدارة نحو آسيا» بين صنّاع القرار والمسؤولين الديموقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة منذ 2011، لم يُترجم بقرارات وسياسات تتلاءم وحيويته بالنسبة إليها. وهو رأى، في معرض تحليله للأسباب التي تفسّر هذا الأمر، أن «واشنطن، ولمدّة طويلة، استخفت بالتحدي الصيني، وظنت أن مزيجاً من المحفّزات والضغوط سيدفع بكين إلى الالتزام بثوابت النظام الدولي القائم. إضافة إلى ذلك، فإن أزمات خطرة استفحلت في مناطق أخرى، من حروب الشرق الأوسط إلى الاجتياح الروسي لأوكرانيا. وعبر إعلانها عن سياسة خارجية متمحورة حول آسيا، سعت إدارة أوباما إلى إحداث تغيير في التوجهات الإستراتيجية في ظل غياب تطورات دراماتيكية تبرر مثل هذا التغيير… لكن السبب الأخير لعدم صياغة رد متناسب على تعاظم التحدي الصيني، هو أن أكلافه كانت تفوق ما تستطيع أي من الإدارات المتعاقبة تحمله. فقد تبين أن نقل القوات والقدرات العسكرية من أوروبا والشرق الأوسط نحو آسيا، ومحاولة التغلّب على المعارضة الداخلية لمشروع الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، والتخلي عن منظومات السلاح الموروثة لمصلحة أخرى مخصّصة لمجابهة الصين، والتركيز المكثف للنشاط الديبلوماسي على منطقة المحيطين الهادئ والهندي، هي بمجملها مهام بالغة المشقة إن لم تكن مستحيلة، بالنسبة إلى هذه الإدارات المتعاقبة». ويشير بلاكويل إلى أنه «بينما كانت واشنطن مستنزفة في صراعات الشرق الأوسط وأوروبا، تضخّم الإنفاق العسكري لبكين، التي شرعت في تطوير أسطولها العسكري البحري ومنظوماتها الصاروخية. وعلى عكس الولايات المتحدة التي انسحبت من اتفاقيات تجارية موقعة أو توقفت عن توقيع أخرى جديدة، أبرمت الصين اتفاقيات للتجارة الحرة في آسيا وفي بقاع أخرى من العالم. وفي الوقت الذي كانت فيه الديبلوماسية الأميركية غارقة في مشكلات الشرق الأوسط وأوروبا، كانت تلك الصينية توسع نفوذها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وفي بقية الجنوب العالمي».
عودة الحروب الطويلة والقابلة للاتساع نحو جوارها الأقرب، وربما إلى خارجه، هي من بين معالم السياق الدولي المستجد


لو صدر مثل هذا التحليل عن جهة معارضة للسياسة الأميركية، خاصةً إذا كانت عربية، لوُسم تلقائياً بالتفكير الرغبوي البعيد عن الموضوعية. لكن كون صاحبه، الصديق العزيز لبول بريمر، رئيس ما سمّي بمجلس الحكم الانتقالي خلال الاحتلال الأميركي للعراق، منذ أن عمل الرجلان سوياً تحت إمرة هنري كيسنجر في سبعينيات القرن الماضي، هو ما قد يضفي عليه درجة من الصدقية بالنسبة إلى الكثير من الليبراليين المتأمركين العرب.
عودة الحروب الطويلة والقابلة للاتساع نحو جوارها الأقرب، وربما إلى خارجه، هي من بين معالم السياق الدولي المستجد. لقد مضى على اندلاع النزاع في أوكرانيا ما يقرب من الـ25 شهراً، فيما تقترب ملحمة غزة من شهرها السادس. أثبتت هذه المجابهات أن نموذج الحرب الخاطفة، أي الصراع الذي يُحسم عبر معركة أو بضع معارك فاصلة، لم يعد وارداً اليوم. الولايات المتحدة شريك أساسي في الحربين، وإن كان الأمر أكثر وضوحاً في غزة، وما نتج منها من صدام مباشر بين البحرية الأميركية والمقاومتين اليمنية والعراقية. التورّط الأميركي في مثل هذه الحروب، والمرشح للتزايد بفعل ديناميات الميدان، كما نرى في اليمن مثلاً حيث لم تعد المواجهة تقتصر على باب المندب والبحر الأحمر، بل باتت تشمل المحيط الهندي أيضاً، هو ما سيضعف قدرة واشنطن على التركيز على أولويتها الاستراتيجية المعلنة ويعزز موقف بكين في مقابلها.