التوفيق بين الأهداف المعلَنة للإستراتيجية الكبرى للدول، والسياسات التي تعتمدها في شتّى المجالات بحُكم الضرورات التي تمليها الوقائع المتغيّرة، وما ينجم عنها من تداعيات، هو من أبرز التحدّيات التي عادةً ما يواجهها صنّاع القرار. ويصبح مثل هذا التوفيق مهمّة بالغة المشقّة بالنسبة إلى قوة إمبراطورية منحدرة، كما هي حال الولايات المتحدة اليوم، تكثر «التزاماتها»، فتصبح مضطرّة، وفي ظلّ التأجّج الراهن للصراعات الدولية، للتورّط في بعضها «المهمّ»، ولكن على حساب تلك المصنّفة «أهمّ». تتصاعد حدّة المجابهة الدائرة بين الولايات المتحدة والائتلاف الذي تقوده، من جهة، والقوات المسلّحة اليمنية وحركة «أنصار الله» من جهة أخرى، يوماً بعد يوم، ما ينذر بتحوّلها إلى نزاع مديد ومحتدم.شرح المؤرّخ الأسترالي، كريستوفر كلارك، في كتابه المرجعي عن الحرب العالمية الأولى الصادر في عام 2015 بعنوان «السائرون نيام. صيف 1914: كيف اتّجهت أوروبا نحو الحرب»، الدور المركزي لاستسهال اللجوء إلى القوّة العسكرية من قِبَل القوى الإمبراطورية آنذاك لحلّ نزاعات محلّية، في سياق قارّي أوروبي تتنامى فيه التناقضات بين دوله، أو في داخلها، وتُنسج فيه تحالفات بين بعضها ضدّ بعضها الآخر، في اشتعال الحريق الكبير وتمدّده. تستسهل واشنطن، اليوم، اعتماد الخيار العسكري ضدّ قوّة كانت تعتبرها «ميليشيا»، وعادت تصنّفها «منظمة إرهابية»، على الرغم من تجذّرها الشعبي الواسع في اليمن، والذي يتّضح لكلّ ذي عقل عند رؤية التظاهرات المليونية التي تنظّمها تضامناً مع فلسطين. ربّما تمثّل حركة «أنصار الله»، اليوم، أحد أكبر التنظيمات الجماهيرية في طول الفضاء العربي الإسلامي وعرضه، وباتت شعبيتها، على خلفية دورها العملي في التضامن مع الشعب الفسطيني، تتجاوز حدود اليمن، وتتعزّز في بلدان هذا الفضاء. وهي بطبيعة الحال طرف أساسي في محور المقاومة في الإقليم. المفردات التي تستخدمها الإدارة الأميركية عند تحديد أهداف عدوانها على اليمن، هي بدورها دليل على تخبّطها وانفصالها الكامل عن الواقع. هي تتحدّث عن «تحجيم القدرات الصاروخية والعسكرية»، Degrading military capacities، وكأنها تتعامل مع جيش نظامي يمتلك مخازن للأسلحة ومواقع ثابتة، مستندةً إلى تجربتها في حربَي العراق وكوسوفو. ستكتشف بسرعة أن القصف الجوي والصاروخي سيعجز عن تحقيق مثل هذا «التحجيم». ماذا ستفعل حينذاك؟ هل ستباشر بعمليات برية، وإن موضعية، لتحقيق أهدافها المعلَنة؟ الوضع يتّجه نحو الأسوأ بالنسبة إليها، وإن اختارت المضيّ في خيارها العسكري، فسرعان ما ستجد نفسها متورّطة في معركة متدحرجة نحو حرب ضروس، وأهلاً وسهلاً في جهنم.
تتحدّث واشنطن عن «تحجيم القدرات الصاروخية والعسكرية» لليمن، وكأنها تتعامل مع جيش نظامي يمتلك مخازن للأسلحة ومواقع ثابتة


عند تناوله للمفاعيل المتوسطة والطويلة الأمد على الموقع «الريادي» للولايات المتحدة على الصعيد الدولي، يَعتبر المؤرّخ الفرنسي، إيمانويل تود، في كتابه الصادر هذه السنة بعنوان «هزيمة الغرب»، أن هذه الحرب هي بمثابة «فخّ لها صنعته بأيديها». يرى تود أن واشنطن عملت بوعي على إنتاج جميع الظروف المؤاتية لاندلاع النزاع في أوكرانيا، بمشاركة نشطة من حلفائها الأوروبيين، من خلال دعم التيارات القومية المتطرّفة في هذا البلد، وإيصالها إلى السلطة، ومن ثمّ ضخّ الأسلحة والأعتدة العسكرية المتطوّرة إليه، وإرسال المستشارين العسكريين لتدريب قواته العسكرية، لتحويله عمليّاً، وليس رسمياً في مرحلة أولى، إلى دولة عضو في حلف «الناتو». استخفّت واشنطن بروسيا وبقدراتها العسكرية والاقتصادية، واعتقدت أن إقدامها على التدخّل في أوكرانيا سيحوّل الأخيرة إلى أفغانستان جديدة بالنسبة إلى موسكو، تستنزف جيشها، ومن ثمّ تدحره، مع الأمل في أن يفضي ذلك إلى انهيار الدولة الروسية وتفكّكها. تلازم مع هذا الاستخفاف بروسيا، تناسٍ خطير على المستوى الإستراتيجي لانحسار القاعدة الصناعية، خاصّة العسكرية، في الولايات المتحدة والقسم الأعظم من دول الغرب، يُترجم اليوم عجزاً عن تلبية احتياجات الجيش الأوكراني من أسلحة وذخائر «غبية» وذكية على حدّ سواء. وقد أشار مرصد دعم أوكرانيا، التابع لـ«معهد كييل» الألماني للاقتصاد العالمي، وهو المصدر الأهمّ بالنسبة إلى حجم الدعم المقدَّم لهذا البلد، إلى تراجع هائل في حجمه، وصل إلى نسبة 90% بين شهرَي آب وتشرين الأول عام 2023، مقارنةً بالفترة نفسها في عام 2022. فشل الهجوم الأوكراني المضاد الذي كان من المفترض، منذ ربيع 2023، أن يفضي إلى هزيمة روسية مدوّية، وفقاً للقادة السياسيين والعسكريين الغربيين، والتطوّرات الميدانية الحالية، وتلك المتوقّعة في المستقبل، ترجّح تعاظم هذا الفشل. هذا مثال آخر على ما تقود إليه «الثقة الزائدة في النفس» والاستخفاف بالآخرين، أو بكلام أدقّ، الغطرسة الأميركية، من نتائج.
العطب الأصلي هو في أذهان النخب الحاكمة في واشنطن التي لم تستوعب بعد عن حقّ ما يترتّب على التحوّلات الهائلة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية والثقافية، التي شهدها العالم في العقود الثلاثة الماضية، على موازين القوى بين الدول، وكذلك بين بعضها وبين حركات مقاومة شعبية. تسهب تقارير المؤسّسات الرسمية الأميركية ومراكز أبحاثها، على سبيل المثال، في تفصيل مخاطر امتلاك هذه الحركات صواريخ متطوّرة ومُسيَّرات، واكتسابها معارف وخبرات في ميادين التكنولوجيا السيبرانية وغيرها. ولكنّ الاستنتاجات التي تخلص إليها تُختصر في كيفية محاربتها بشكل أفضل من خلال «تجفيف مصادر تمويلها»، وإعداد قوائم بأعضائها لقتلهم أو اعتقالهم، وحصار وتجويع حاضنتها الاجتماعية، أو شنّ حروب إبادة عليها كما يفعل الكيان الصهيوني في غزة. ما لم تدركه هذه النخب هو أن العالم، وجزئياً بفضل انتشار التكنولوجيا والعلوم والمعارف، دولاً ومجتمعات، خرج عن السيطرة. روسيا لم تَعُد كما كانت في التسعينيات، ولا الصين بطبيعة الحال. لكنّ حركات المقاومة كذلك أضحت اليوم أقوى نوعيّاً ممّا كانت عليه، وعلى جميع المستويات. وستعي واشنطن ذلك في الأسابيع والأشهر والأعوام المقبلة، بعد وقوعها في الأفخاخ التي نصبتها بأيديها.