في تجربة علاقة عالم الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين بالحركة الصهيونية وبـ«إسرائيل» الكيان، آراء متضاربة. وكان خلاف نشب بين العالم الفيزيائي الألماني فيليب لينارد وأينشتاين بعد ودّ طبع علاقتهما لفترة من الوقت، وتحوّل إعجاب أينشتاين بأطروحة لينارد في الفيزياء التجريبية ونظريته حول انتقال الإشعاع الكهرومغناطيسي عبر الفضاء إلى كراهية شديدة. بقي الخلاف بين «أثير» لينارد و«نسبيبة» أينشتاين في حدوده العلمية لبعض الوقت، ولكن ما إن دخلت السياسة حتى تدهورت العلاقة، وتحوّل الود السابق إلى عداء محكم. وكان لسياسة العداء الألمانية لليهود في فترة صعود نجم هتلر مفعولها القوي، حيث أسبغ لينارد على عمل الفيزياء طابعاً يهودياً ووصف الفيزياء النسبيبة بـ«الفيزياء اليهودية». وعرّض لينارد بالمكانة التي حظي بها أينشتاين، وكان يرى بأن من واجبه تحذير الألمان منه، ولا سيما وقد «بدأت الروح اليهودية في السيطرة على الفيزياء». وفي رد فعل على استفزازات لينارد، انحاز أينشتاين إلى يهوديته على نحو صريح وأعلن: «إنني ككائن بشري معارض للقومية، ولكن بصفتي يهودياً فأنا من اليوم مؤيد للجهد الصهيوني»، وكتب إلى صديق له: «يمكن للمرء أن يكون أممياً دون أن يكون غير مبال بأفراد قبيلته... فالقضية الصهيونية قريبة جداً من قلبي». شارك أينشتاين في جولة محاضرات رعتها الصهيونية رغم روحه المعادية للقومية. وكان مقتنعاً بصحة مشاركته في معاداة السامية الشديدة في أوروبا ووعيه المتنامي بتراثه العرقي، وكان يصف أصله بأنه «ابن لأبوين يهوديين»، وأظهر القليل من التقارب مع أي شكل من أشكال الدين ولكن رد فعله على الموقف المعادي لليهود في ألمانيا جعل منه صهيونياً، وأصبح هدفاً للنقّاد النازيين، الذين أشاروا إلى أينشتاين على أنه «غير ألماني» أو «عالمي»، وهي كلمة رمزية تهدف إلى وصم أينشتاين بالميول الشيوعية. وفي النتائج، تحوّل لينارد إلى عالم نازي وتحوّل أينشتاين إلى عالم صهيوني، وما جمعه العلم فرّقته السياسة. وكما ذكر كاتب سيرته والتر إسحاقسون، أن أينشتاين جمع الشهرة العالمية والصهيونية وسرعان ما أصبح قدّيساً حيّاً لليهود.
كان دعم أينشتاين للصهيونية قد وضعه في جبهة معارضة ضد دعاة الاندماج في ألمانيا. وفي لقاء مع إحدى المجموعات اليهودية الموالية لألمانيا في نيسان 1920 وبّخ أينشتاين أعضاءها باتّهامهم بمحاولة فصل أنفسهم عن يهود أوروبا الشرقية الأكثر فقراً، وأثار سؤالاً استنكارياً: هل يستطيع «الآري» أن يحترم مثل هؤلاء التعساء؟
اغتيال وزير الخارجية والكاتب والسياسي الليبرالي من أصول يهودية والثر راثيناو في حزيران 1922 من قبل قوميين شباب على خلفية تأييده لمعاهدة فرساي الموقّعة في عام 1919 والتي عدّها القوميون الألمان إهانة لألمانيا للشروط المذّلة التي اشتملت عليها، مثّل نقطة تحوّل فارقة في مسيرة أينشتاين، ولا سيما بعد أن وصف هتلر منفذي العملية بالأبطال، وهنا بدأ أينشتاين يظهر ميولاً صهيونية واضحة.
زار إينشتاين فلسطين بدوافع صهيونية وقاد حملة تبرّع لجامعة عبرية، وبارك الصهيونية قبل وخلال وبعد الحرب العالمية الثانية. ولكن بصفته من دعاة السلام، كان أينشتاين يخشى تأثير الدولة اليهودية على العرب الفلسطينيين، ثم على الروح اليهودية. وقد كتب رسالة بعث بها إلى وايزمان في 25 تشرين الثاني 1929 جاء فيها: «إذا لم نتمكن من إيجاد طريقة للتعاون الصادق والمعاهدات الصادقة مع العرب، فإننا لم نتعلم شيئاً على الإطلاق خلال ألفي عام من المعاناة ونستحق كل ذلك».
وفي عام 1946، أدلى إينشتاين بشهادته أمام لجنة التحقيق الأنكلو-أميركية قائلاً: «إن فكرة الدولة ليست من وجهة نظري، ولا أستطيع أن أفهم سبب الحاجة إليها». بينما كان يؤيد تطوير وطن يهودي في فلسطين، فضّل رؤية دولة ثنائية الجنسية في أحسن الأحوال. ولكن بعد الإعلان عن الكيان الإسرائيلي بادر أينشتاين إلى إظهار تأييده. وفي 29 تشرين الثاني 1949، أي بعد عامين من تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على تأييد قيام دولة يهودية، ألقى أينشتاين خطاباً إذاعياً على شبكة NBC يشيد بما وصفها التضحية الإسرائيلية بالنفس لاستيعاب آلاف اللاجئين اليهود. وأصرّ على أنّ «يهود فلسطين لم يقاتلوا من أجل الاستقلال السياسي لمصلحتهم»، ولكنّهم قاتلوا من أجل الهجرة الحرّة ليهود العديد من البلدان حيث كان وجودهم ذاته في خطر.
من وجهة نظر أخرى، ينقل فريد جيروم في كتابه بعنوان «أينشتاين عن إسرائيل والصهيونية: أفكاره الاستفزازية حول الشرق الأوسط»، مقتطفات من مواقف أينشتاين الراديكالية ضد «الدولة اليهودية»، مثل رسالة بتاريخ 21 أيار سنة 1934 موجهة إلى «United Jewish Appeal» في اجتماعهم في فندق كومودور بمدينة نيويورك جاء فيها: «إذا كنّا نحن اليهود، كشعب مشتت، حافظنا على وجودنا عبر ألفي عام تقريباً من دون قوة خارجية، فنحن ندين بذلك إلى حقيقة أن تعاليم آبائنا بقيت حيّة فينا، وأن في صلب هذه التعاليم هو فهم وتقديم العون للجميع، وخصوصاً إخوتنا اليهود، الذين يرتبطون بنا بالتقاليد وكذلك المصير المشترك...".
بدا الإرباك واضحاً على مواقف أينشتاين نتيجة الأحوال السياسية المتقلّبة التي عاشها، فبين يهوديته الراسخة والصهيونية الطارئة على أدائه السياسي وعلميته الموجّهة لوعيه بعض الوقت يمكن أن نلحظ تضارباً في مواقفه من الدولة اليهودية.
من النماذج الجامعة لتضارب مواقفه، رسالة بعنوان «ديننا للصهيونية» بتاريخ 29 نيسان 1938 حيث كتب أينشتاين: «أن تكون يهودياً... يعني قبل كل شيء أن تعترف وتتّبع على نحو عملي تلك الأسس في الإنسانيات المذكورة في الكتاب المقدّس... نحن نجتمع اليوم بسبب اهتمامنا بالتطور الحاصل في فلسطين... هناك أمر يجب التشديد عليه، ويعلو على غيره في الأهمية: أن اليهودية مدينة بالامتنان الكبير للصهيونية. فالحركة الصهيونية أحيت بين اليهود الشعور بالجماعة». ولكنّه استدرك: «ولكن النبأ المشؤوم في زماننا، القومية المبالغة التي تغذيها الكراهية العمياء، هو الذي قاد عملنا في فلسطين إلى مرحلة صعبة... ووجب علينا الحماية المسلّحة ضد الخارجين عن القانون من العرب المتعصّبين». وعاد أينشتاين وخفّف من لهجته التحريضية ودعا إلى ما سمّاه «اتفاقاً معقولاً» بين اليهود والعرب، على قاعدة العيش معاً بسلام بدلاً من تأسيس دولة يهودية، على قاعدة دينية، إذ إن «الطبيعة الأساسية لليهودية تعارض فكرة الدولة اليهودية ذات حدود وجيش وسلطة دنيوية». وحذّر من تطوير قومية ضيقة داخل اليهود وتكون سبباً لتدميرهم حتى من دون دولة يهودية. ويفسّر ذلك بأن «العودة إلى وطن بالمعنى السياسي للكلمة يساوي النأي عن روحية مجتمعنا الذي ندين به إلى عبقرية أنبيائنا. وإذا كانت هنا حاجة خارجية تجبرنا على تحمل هذا العبء، فدعونا نتحملها ببراعة وصبر».
بدا إصرار أينشتاين على معارضة الدولة اليهودية شديداً في مرحلة ما من خلفيّة إنسانية وأخلاقية أكثر منها قومية. في شهادته أمام لجنة التحقيق الأنكلو-أميركية حول فلسطين في كانون الثاني 1946 جادل أينشتاين ضد فكرة الدولة اليهودية، وأربك موقفه هذا كثيراً من الصهاينة بمن فيهم صديقه الحاخام ستيفن وايز الذي طلب من أينشتاين التوقيع على بيان لتوضيح نظراته وخاصة ما يتعلق منها بمناصرة دولة ثنائية الجنسية في فلسطين. فكتب وايز البيان: «إن الوطن القومي هو الإقليم الذي يكون فيه لليهود حقوق بالاندماج بحرية تامة ضمن حدود الإمكانات الاقتصادية الاستيعابية، والتي تمكّنهم من شراء الأرض من دون التعدّي على الشعب العربي. ويجب أن يكون لليهود الحق في الكيانية الثقافية المستقلة، وأن تكون لغتهم واحدة من لغات البلاد، وتكون لهم حكومة تعمل ضمن أحكام دستورية صارمة، مع ضمان عدم وجود "أغلبية" لجماعة على حساب الأخرى من العرب واليهود، وأن لا يكون هناك قانون تمييزي ضد مصلحة أي جماعة». ثم طلب وايز من أينشتاين الموافقة على البيان والتوقيع عليه. ومع أن أينشتاين وقّع على البيان إلا أنه لم يكن راضياً عن مضمونه، فكتب الجملة التالية وبعث بها إلى وايز: «إنني مقتنع بقوة أن المطالبة الصارمة بالدولة اليهودية لن يكون لها سوى نتائج غير مرغوب بها بالنسبة إلينا». ومع أن أينشتاين عارض الدولة اليهودية، لكنّه لم يفصل نفسه عن الصهيونية، التي اختار منها الشق الثقافي شأن آخرين من رفاقه مثل هنرييتا سزولد. والصهيونية الثقافية تعني في عرفهم هي المؤيّدة لمساواة كاملة بين اليهود والعرب، عبر تأسيس دولة ثنائية الجنسية.
إن تأييده لفكرة الدولة ثنائية الجنسية، وإن كانت تصدر عن رغبة في حسم الخلاف الداخلي، الصراع مع الذات، فإنه في الوقت نفسه وجد أن من غير المقبول، أخلاقياً على الأقل، مناصرة كيان يديره وحوش.
في 4 كانون الأول 1948، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» رسالة موقّعة من 28 شخصية يهودية بارزة، من بينها أينشتاين والمنظّرة السياسية حنه أرندت، احتجاجاً على زيارة مناحيم بيغن (عضو مؤسس لمنظمة «الإرغون» ورئيس وزراء الكيان لاحقاً عن حزب «الليكود») للولايات المتحدة وإدانة حزبه «حيروت» (الحرية) الذي وصفوه بأنّه «حزب سياسي قريب جداً في تنظيمه وأساليبه وفلسفته السياسية وجاذبيته الاجتماعية من الأحزاب النازية والفاشية». وكالتزام مبدئي، رفض الموقّعون ازدوداجية المعايير، وقالوا بأن من غير الممكن معارضة الفاشية في جميع أنحاء العالم وقبولها حين يتعلق الأمر بسجلّ بيغن السياسي ووجهات نظره الفاشية. وفي إشارة إلى مذبحة دير ياسين التي ارتكبها اليهود الصهاينة ضد العرب، شدّد الموقّعون على أن «الإرهابيين [اليهود]، بعيداً عن الخجل من فعلتهم، كانوا فخورين بهذه المذبحة، وقاموا بنشرها على نطاق واسع. حادثة دير ياسين تجسد شخصية وتصرفات حزب الحرية»، الذي أعادوا توصيفه بأنه «خليط من القومية المتطرفة والتصوّف الديني والتفوق العنصري»، وأنه يحمل «طابعاً لا لبس فيه لحزب فاشي يستهدف الإرهاب والتضليل وسيلة، و"الدولة القائدة" هي الهدف». وطالب الموقّعون الإدارة الأميركية بإدارة ظهرها لبيغن وألا تدعم «التجسيد الأخير هذا للفاشية».
اليوم، ومن خلال ما يجري في غزّة، يعتقد كثيرون أنّ طبيعة الحكومة الإسرائيلية لم تتغير كثيراً عن زمن أينشتاين. وذلك ببساطة لأن الصهيونية، باعتبارها كياناً سياسياً، هي شكل من أشكال الفاشية، ولا يمكن لأي حزب سياسي في إسرائيل أن يكون ديموقراطياً حقاً إذا كان يعزز المثل الصهيونية.
الصراع الداخلي الذي عاشه أينشتاين بين يهوديته وإنسانيته، أو بالأحرى بين قوميته من جهة وعلميّته وعلمانيته وعالميته، عاشه من قبل اسبينوزا ولحق به آخرون مثل هاينه وماركس وروزا لوكسمبورغ وتروتسكي وفرويد وسارتر وغيرهم. ولخّص إسحاق دوتشر حالة هؤلاء بما سمّاه «اليهودي غير اليهودي» (the Non-Jewish Jew). وفي تبرير موقفه، شعر أينشتاين بأنّه مجبر من قبل العالم لأن يكون يهودياً دائماً وصهيونياً متردداً.
على نحو الإجمال، كان أينشتاين يخفي شخصيته السياسية والأيديولوجية خشية تحطّم رمزيته العلمية والعالمية مع انحيازه ليهوديته، وصهيونيته المشروطة، وقد عبّر عن حزنه بفعل الظروف التي أجبرته على الاكتفاء بالرابطة الإنسانية بأهل ملّته، لإدراكه للمخاطر المحدقة باليهود في العالم.
في النتائج، رافقت الحيرة أينشتاين، وإن محاولة الجمع بين هويتين متنافرتين على مستوى الوظيفة، أي الأيديولوجية الصهيونية والعلمية الإنسانية العالمية، لم تسفر عن خاتمة حاسمة، ولكن غلبت شخصيته العلمية على انتمائه اليهودي.

* كاتب من الجزيرة العربية