توطئةهل يمكن أن يكون أمرٌ، هو في حقيقته سببٌ هيّنٌ، بابَ اعتزازٍ وافتخارٍ على نطاقٍ عامّ؟ نقول في الجواب: نعم يُمكن. بل إنّ هذا ومثله كثيرٌ في الأساطير المؤسّسة للدُّول والأُمم. لكنّ أُنموذجنا، وهو في الوقت نفسه أُطروحة البحث، قد تجاوز ذلك المُستوى من الهوان، باتجاه مستوىً أدنى، من التزييف والتوظيف الغلط المقصود. نعني بذلك ما يُسمّى في لغة العديد من مختلف الأُكتوبات ذات الصفة التاريخيّة والأعمال الفنّيّة بـ«معركة عنجر»، بوصفها، عند الذين اخترعوها وقدّموها لشعبهم، حدثاً بارزاً في التاريخ، قد أسّس وهيّأ لِما بعده من مشروعٍ سياسيّ، وُضع ورُسم في الأذهان وعلى الورق، بحيث لم يكُن ينقصه إلا النّسَب. بدونه سيكون أشبه بشجرةٍ من جذعٍ وأغصان وفروع، لكنّها بدون جذور. فيأتي ما سُمّي بـ«معركة عنجر» في رأس هاتيك الجذور المزعومة.
«فخر الدين» (سيزار الجميل)

هل حدث كلُّ ذلك من نفسه بنفسه ولنفسه؟
بالأكيد كلّا. وإنما جرى تزييف وتوظيف الحدث المزعوم، أي «معركة عنجر»، ليكون عنصراً من عناصر تركيب نظامٍ سياسي جديد، قائمٍ ومبنيّ على أنّ هذه البقعة من الأرض ذات خصوصيّة في الماضي، وذات وظيفة في المستقبل، مختلفتان عن كلّ ما حولها.
بُغيتنا في هذا البحث أن نكشف حقيقة الحدث وحجمه وغرضه. وهل هو أمرٌ قد حصل بالفعل كما وصفه الواصفون؟ ثم هل كان بالفعل دفاعاً عن «لبنان»، في وجه قوةٍ أجنبيّة غازية، تُوّج بالانتصار المؤزّر، كما زعم الزّاعمون، ويحتفي به اليوم المُحتفون؟

في الوقائع
دعونا نبدأ ببسط ما هو ثابتٌ من وقائع الحدث:
- أولاً: في تاريخٍ غير معلوم بالضّبط، من أوائل القرن السابع عشر للميلاد، خرج من دير القمر، عاصمة الأُمراء المعنيين، جيشٌ لجب، بقيادة الأمير فخر الدين المعني، سلك طريقه باتجاه سهل البقاع.
- ثانياً: في الوقت نفسه خرج من عاصمة المنطقة دمشق عسكرٌ آخر، ولا نقول جيش، معقود اللواء للوالي العثماني مصطفى باشا، سلك طريقاً يؤدّي إلى السهل نفسه.
من المؤكّد الذي لا ريب فيه أنّ العسكريْن لم يكن يقصد أحدهما الآخر مقاتلاً، كما قد يوحي ظاهر الأمور للمراقب العادي في ذلك الأوان. لأن الاثنين كانا يعملان لسيّدٍ واحدٍ بعينه هو الدولة العثمانيّة. كان فخر الدين جلّاداً عند العثمانيين. أمّا الوالي، فقد كان يغضُّ الطّرْف، بأمرٍ من إستامبول ولا ريب، عن آثام فخر الدين في السّلب والنهب وإزهاق الأنفس.
إذاً، فثمّة سببٌ خفيّ هو الذي دعاهما لذلك الحراك العسكري الكبير في الاتجاه نفسه. سيكون علينا أن نفسّره. لكن بعد أن ننتهي من بسط وقائع الحدث.
- ثالثاً: في نهاية المسير التقى العسكران وجهاً لوجه. عسكرُ فخر الكبير القويّ والحسن الإعداد، الذي كان أشبه ما يكون في ذلك الأوان بجيشٍ مُحترف، كي ما يكون مهيّأً دوماً لخوض المعارك بخدمة سيّده، ولخدمة سياسته الدّائمة في مدّ حدود منطقة حكمه، وضم أراضي الآخرين إليه بالقوة. وعسكر الوالي العثماني في دمشق، مصطفى باشا، الذي لم يقُلْ أحدٌ ما كان غرضه من النّفر بعسكره، ولم يكُن له عهدٌ بالقتال، لأنه موظفٌ مدني عند إستامبول. لم يكن تحت إمرته من المُسلّحين سوى أشبه بمن نسمّيهم اليوم عناصر الأمن الداخلي. وما أولئك الذين حشدهم وخرج بهم ذلك الخروج إلا أفرادٌ من العباد، جرى حشدهم بالقوة من الأسواق وأماكن العمل. ثم تسليحهم بما هو مُتيسّر، ليُساقوا سوقاً إلى حيث التقوا بعسكر فخر الدين. لذلك، فإنّه ما إن التقت العيون بين العسكريَن، قرب قرية اسمها عنجر، حتى رمى عسكرُ الوالي سلاحه البسيط ولاذ بالفرار. وما ندري هل عاد هؤلاء إلى مواطن عيشهم، أم انضمّوا إلى عسكر فخر الدين. ونرجّح الاحتمال الأوّل، لأن القوم انتُزعوا انتزاعاً من مواطن عيشهم وأسباب رزقهم، فلم يكُن لهم غرض، بعد أن كفاهم الله مؤونة القتال، أولى من العودة إلى أُسرهم وأعمالهم.

النتيجة الأُولى للبحث
إذاً، فما كان من معركةٍ ولا مَن يُعاركون. وأنّ ما كان من نزاعٍ أو اختلافٍ بين الطرفين كان سحابة صيف، ما لبث أن استعاد السّلم والسّلام. بل إنّ ما كان سبباً للحشد قد انتهى وحلّ محلّه الوئام، بشهادة عودة المياه إلى مجاريها بعد قليل بين الأمير والباشا. لكن على قاعدةٍ أُخرى، سيكون علينا بيانها، لنكشف الأسباب والخلفيّة الحقيقيّة لكلّ ما حدث وسيستمرّ.
لكنّ المشغولي الوُجدان بتركيب الوطن الجديد على ركائز متينة، قرأوا، أو قيل لهم، إنّ أميراً لبنانياً يقود جيشاً من اللبنانيين، قد واجه جيشاً عثمانياً قادماً عند الحدود اللبنانيّة-السوريّة، فخرج بعسكره لمواجهته، وحصل اللقاء في قرية عنجر، وأن المواجهة انتهت بهزيمة العثمانيين وفرارهم. فلم يروا في ذلك إلا أنّها حربٌ خاضها «لبنان» بجدارة في وجه الدولة العثمانيّة الجبارة، وانتصر فيها نصراً مؤزّراً.
إذاً، وهذا هو مربط الفرس عند هؤلاء، فذلك يُثبت أنّه كان ثمة من زمان روحٌ وطنيّةٌ جامعة على قضيّة «لبنان» الوطن أو حوله، قبل تأسيسه رسمياً بالفعل بقرون. وما تأسيس الدولة في ما بعد إلا تعبير صريح عن هذه الروح الكامنة، والتي من حقّها، ما دامت قد عبّرت عن نفسها في «معركة عنجر» بتلك القوّة في ما زعموا، أن تتابع فتُعبّر في ما بعد عن ذاتها المكنونة التعبير السياسي المناسب.
جرى تزييف وتوظيف الحدث المزعوم ليكون عنصراً من عناصر تركيب نظامٍ سياسي جديد، قائمٍ ومبنيّ على أنّ هذه البقعة من الأرض ذات خصوصيّة في الماضي، وذات وظيفة في المستقبل، مختلفتان عن كلّ ما حولها


الحقيقة الغائبة
أمّا بعد، وها قد بان لنا أنه لم يكن ثمّة من معركة في عنجر، وأن الأُمور قد عادت سريعاً عند الطرفين إلى ما كانت عليه قبل قليل، فإنّ ذلك يطرح سؤالاً كبيراً كامناً هو:
إذاً، وما دام أمرُ عنجر قد انتهى تلك النهاية الهيّنة، التي لم تكن في حسبان أحدٍ من الطرفين في ما يبدو ، حين حشد وقصد الجهة نفسها، فلماذا إذاً تجشّما، وخصوصاً فخر الدين، كلّ ذلك العناء؟
كما أنّ من المؤكد أن كلا الطرفين، إذ حشد وحرّك قواه المقاتلة، لم يكن يقصد الآخر، بل ربما لا يعلم، حتى مُجرّد علم، بحشده وحركته بالمُقابل. وإنّما كان يقصد طرفاً ثانياً. وإذاً، مَن هو ذلك الطرف الخفي؟
الحركة التالية من فخر الدين تبدأ كشف حقيقة ذلك الذي يجري؛ ذلك أنّه ما إن حيّدَ العسكرَ الدمشقي، واختفى هذا عائداً إلى بلده في ما يبدو، حتى رأيناه هو، أي فخر الدين، يتخذ سبيله هابطاً باتجاه سهل البقاع.
إذاً، فهذا هو المقصود المكتوم منذ البداية، أي سهل البقاع. وما ذلك الذي جرى قبل قليل في عنجر إلا بمثابة عثرةٍ ظهرت في طريق فخر الدين من حيث لم يكُن يحتسب. فكان عليه أن يُزيلها من دربه، قبل أن يُتابع المسير إلى مقصده. وهكذا كان.
السؤال الآن بات مُحدّداً وواضحاً: لماذا وماذا كان غرض فخر الدين إذ اتخذ طريقه إلى السهل الكبير.
الجواب يستدعي العودة بالتاريخ قليلاً إلى الوراء.

سهل البقاع
كان السّهل، الذي تبلغ مساحته 42 % من مساحة ما هو «لبنان» اليوم، من أفضل الأماكن لعيش البشر في ذلك الأوان. بل ربما الأفضل على الإطلاق في كل المنطقة. وذلك بفضل أُسرة آل الحرفوش، التي نُرجّح أنها ترجع بأصولها البعيدة إلى المهاجرين الهمدانيين الأوائل من الكوفة. لكنّها ما عتّمت أن غدت ظاهرةً سياسيّة فريدة في كل المنطقة، من حيث إنها نجحت في الوصول إلى الإمارة في بعلبك بسلام وقبولٍ من أهلها. مع أنّ أكثريّة المدينة كانت يومذاك حنبليّة المذهب. وما ذاك إلا لأن آل الحرفوش كانوا في السلطة كما كانوا قبلها: يعملون حتى كبار أُمرائهم لكسب لقمة العيش. ولا يُكلّفون الناس ضرائب وإتاوات لصالحهم. حتى بيوتهم كانت من حجر وطين ككل بيوت المدينة. ولذلك لسنا نجد أيّ أثرٍ لقصورٍ منسوبة إليهم، على طول مدّة حكمهم. ولم يذكر أحد أنهم سلكوا في ما كان يسلك الآخرون، من ضروب الفتن العالقة بين جُباة الضرائب كبيرهم وصغيرهم. ثم إنهم رعوا الناس في لقمة عيشهم، ومنحوا قضيّة التنمية الزراعيّة والإنتاج الحيواني أهميّةً مطلقة. بحيث وصلت منطقة حكمهم إلى حالةٍ من الرّفاه والملاءة غير مسبوقة، وربما غير ملحوقة حتى اليوم. إلى درجة أن الأمير يونس بن حسين الحرفوشي كان يُسدّد الضرائب الإلزاميّة عـن منطقة حكمه للسلطة المركزيّة في إستامبول (الأموال السلطانيّة) ليس نقداً، بل عيناً من فائض نتاج القمح عن حاجة الناس.
ولقد حاولت الدولة العثمانيّة كلَّ ما في وُسعها تحريضَ صنائعها المحلّيين على تدمير هذا الأنموذج الإنساني من السلطة فما استطاعت. وذلك بفضل البراعة السياسيّة للحرفوشيين، وفي رأسها الحفاظ على العلاقات الطيبة ما أمكن مع الكافّة من ذوي الشأن.
أخيراً، كلُّ شيءٍ يدلُّ على أن إستامبول اتخذت القرار بتدمير هذا الأُنموذج نهائياً. وما ذلك إلا لأنّه، حيث بذل السّلام والعدل والكفاية للناس دون تمييز يُشكّل النقيضَ لها في كلّ شيء، خصوصاً في ظلّ نظرتها الحادّة الغبيّة إلى مسألة المذاهب والتّمذهب في الإسلام، فكيف تسكت على هذا الأنموذج الناجح، ما دام أنّ شرف ابتداعه وإنتاجه هو لقومٍ هم عندهم «بيرون ملّت»، أي ليسوا من المسلمين من رأس.

الإعداد للمذبحة
بدأ الإعداد للقضاء المُبرَم على المُنتَج الحرفوشي في السياسة والاجتماع بخطوةٍ مفاجئة، لا ريب في أنّها لم تكن مفهومةً للناس في أوانها. وذلك بأن أقدمت السلطة العثمانيّة المحليّة على تهجير الحنابلة كافّة من موطنهم التاريخي في المنطقة الشّاميّة (مدينة بعلبك). شمل عاصمتهم الثقافيّة في المنطقة نفسها بلدة يونين المجاورة. وذلك في موكبٍ هائل اتجه إلى دمشق. استقرّ حين وصل إليها في منطقةٍ مُعدّة سبقاً وسلفاً في سفوح جبل قاسيون، سرعان ما أُعدّ لاستيعاب تلك الجموع الكبيرة بالمساكن والمرافق الضروريّة، بحيث غدا بلدة حقيقية سُميت الصالحيّة (بلد الصالحين)، كما لا يزال حتى اليوم.
ممّا لا ريب فيه أنّ قرار التهجير الجماعي قد اتُّخذ على أعلى مستوى في إستامبول، وأن تنفيذه، بما فيه استقرار المهاجرين في وطنهم الجديد، قد تمّ بالرعاية التّامة والتنظيم المباشر من أجهزتها المحلّيّة. وذلك أمرٌ بغنى عن تجشّم الدليل. وإلا فمن ذا الذي غيرها يجرؤ، قبل أن يستطيع أو لا يستطيع، على اتخاذ القرار بشأنه، ومن ثَم تنفيذه، بما انطوى عليه من جوانب أمنيّة وسُكانيّة وعملانيّة...
السؤال هنا هو لماذا؟ وما هو غرض السلطة العثمانيّة من ذلك التدبير المُفاجئ العجيب؟
الجواب، الغرض هو تحييد أولئك الحنابلة عن الهول القادم. فلا ينالهم ما سينال غيرهم من سكان السهل، وخصوصاً في عاصمته بعلبك. وهم الذين كانوا يومذاك أكثريّة سكانها الكاثرة. وبالنظر إلى الخطة المرسومة التي سنقف عليها، فما من سبيل لتحييدهم إلا بتهجيرهم الجماعي، بحيث لا يبقى فيها منهم أحد. وهكذا كان. بعدها اطمأن الحاكمون بأمرهم في إستامبول إلى أنّ العمليّة القادمة ستكون «نظيفة»، ولن يلوم أحدٌ الدولة التي ترفع شعار الخلافة على أنّها قد ارتكبت جريمة قتلٍ جماعي بمسلمين.

عودٌ على ذي بدء
بالنظر إلى هذا التركيب للتاريخ من نُتفٍ متفرّقة، فربّ قارئٍ حصيفٍ سيسبقنا إلى النتيجة، العائدة إلى حلّ إشكاليّة البحث الأساسيّة. ومنها السبب الذي جعل فخر الدين ووالي دمشق ينفران معاً بعسكرهما، في وقتٍ واحد، وفي الاتجاه نفسه. لقد كانت حركتهما إشارة البدء إلى تنفيذ الخطّة المهولة بأمر من إستامبول. لكن برزت في البين مشـكلة تفصيلية: مَن الذي سـيكون له «شرف» تنفيذها؟ أو بالأحرى من الذي سيفوز بالأسلاب والمنهوبات الهائلة المركومة في السهل الغني، وبالخصوص في عاصمته بعلبك؟
ذلك هو، أيّها الناس، الإشكال الوحيد الذي جرى حلّه في عنجر. إنّه كان نزاعاً بين لصّين اثنين على القتل الذريع لشعبٍ مُسالم، والتدمير العميق للجزء الأكبر المُنتج من لبنان تدميراً عميقاً. شمل التقتيل العام العشوائي للرجال، والاستيلاء على قطائع المواشي وحواصل الحبوب الغذائيّة، وقطْع الأشجار المثمرة بالملايين. وفي بعض كُتُب التاريخ أوصافٌ تُدمي القلب لِما جرى يومذاك، بحيث لم تقُم بعدها لسهل البقاع قائمة حتى اليوم.
إذاً، فعندما يُمنح يوم عنجر تلك الصورة المُشرقة، فذلك، إن دلّ على شيء، فعلى الافتقار الشديد إلى تحرّي الحقيقة على الأقلّ.

[مادة المقالة مُستلّةٌ بإيجاز من كتابنا القادم «بعلبك: قصّةُ مدينة»]
* مؤرّخ لبناني