أُنشئت المادة 702 بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001، حين فوّض الرئيس الأسبق للولايات المتحدة، جورج دبليو بوش، سراً، تنفيذ برنامج للتنصت على المكالمات الهاتفية من دون أمر قضائي، أُطلق عليه الاسم الرمزي Stellarwind «الرياح النجمية». بموجب هذا القانون، صار يمكن لوكالة الأمن القومي (NSA) أن تطلب من شركات التكنولوجيا، مثل غوغل وغيرها، تسليم نُسخ من جميع البيانات الموجودة في حسابات أي مستخدم أجنبي «مشبوه»، والطلب من شركات اتصالات الهاتف اعتراض وتقديم نُسخ من أي مكالمات هاتفية ونصوص واتصالات عبر الإنترنت من وإلى أفراد غير أميركيين من دون مذكرة قضائية. وقال مسؤولو الأمن القومي في تقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» في 12من الشهر الحالي، إن المادة 702 تلعب دوراً رئيسياً في جمع المعلومات الاستخبارية الأجنبية ومكافحة الإرهاب. صحيح أنّ على الدول واجب حماية مواطنيها من الاعتداءات والعمليات الإرهابية، وإن كان عبر الأمن الاستباقي، إلا أن تمتّع واشنطن وحدها بميزة التجسّس عبر أدوات العالم الرقمي التي صارت بين أيدي جميع الناس، يمنحها أفضلية لم تعد تستحقها في عالم يتبدّل بسرعة كبيرة. كما أنّ ارتباط أميركا بالتفوق التكنولوجي طوال عقود من الزمن، أمّن لها إدامة نهب ثروات الشعوب. والأخيرة ليست فقط آبار النفط، ففي عالمنا الحديث البيانات هي مناجم الذهب الجديدة. فلا يوجد اتصال أو نشاط عبر الإنترنت في مأمن من أنظمة المراقبة المتطورة للإمبراطورية. كل رسالة نصية ومكالمة فيديو وزيارة موقع تخضع بشكل منهجي لفك تشفير وتدقيق عبر التحليلات المستندة إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي.
تصميم عبر الذكاء الاصطناعي (بينغ إيمج كريياتور)

اللافت في القضية هو محاولة الرئيس السابق دونالد ترامب، بالتعاون مع رئيس مجلس النواب، الجمهوري مايك جونسون، منع حصول توافق على التمديد للمادة 702 في الكونغرس. وجهة النظر الأميركية تعتبر التمديد للقانون أمراً أساسياً بالنسبة إلى أمن الولايات المتحدة، فلِمَ يريد ترامب المهووس بفكرة أميركا أولاً رفض ذلك؟ يعتبر ترامب أنّ المادة 702 استُخدمت للتجسّس على حملته الانتخابية عام 2016. حينها، استهدف «مكتب التحقيقات الفيدرالي» (FBI) مستشار حملته السابق كجزء من تحقيق في العلاقات بين حملته عام 2016 وروسيا. وعلى إثر هجوم ترامب على القانون، عرقل 19 نائباً جمهورياً من اليمين المتشدّد طرح التمديد على القانون في الكونغرس بشكله الحالي، كما تدخل مايك جونسون وقلّص مدة التمديد من خمس سنوات إلى عامين، ما اعتبره مناصرو ترامب انتصاراً. كما اقترح مجلس النواب تعديلات عدة على القانون، بما في ذلك السماح باستخدام المادة 702 لجمع معلومات استخباراتية عن منظمات تهريب المخدرات الأجنبية وفحص الزوّار الأجانب المحتملين للولايات المتحدة، إلى جانب توسيع الشركات التي تتمتّع بإمكانية الوصول إلى الاتصالات الأجنبية التي قد تكون مطلوبة للمشاركة في برنامج التجسّس وفقاً لما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز». بالإضافة إلى ذلك، اقترح النواب إصلاحات على القانون، بما في ذلك زيادة الشفافية ومتطلبات إعداد التقارير للحكومة ومقدمي خدمات الاتصالات الإلكترونية، بالإضافة إلى تدابير جديدة لضمان حماية خصوصية الأشخاص الأميركيين، وإنشاء عملية جديدة للمراجعة والموافقة على استخدام المادة 702 في القضايا الجنائية، ما يضمن أنّ استخدام الحكومة لهذه الأداة القوية يخضع لرقابة ومساءلة صارمة. ويبقى أن يحيل المشرّعون الأميركيون مشروع القانون مع تعديلاته إلى مجلس الشيوخ، في مشهد تلفه الضبابية والسرية. وفي حال أقرّ القانون مع التعديلات الجديدة، فإن هذا التغيير من شأنه أن يجبر عدداً لا يحصى من الشركات والأفراد الأميركيين العاديين على العمل كجواسيس فعليين لوكالة الأمن القومي. إذ يمكن إجبار أي شركة أو مزوّد خدمة يتمتّع بإمكانية الوصول إلى شبكات الاتصالات أو تخزين البيانات، على مساعدة برامج المراقبة التابعة لوكالة الأمن القومي «ضد أهداف أجنبية». والآثار المترتبة على هذا القانون، ستنقل نوعية المعلومات التي تجمعها الحكومة الأميركية إلى مستوى آخر. فقد يعني ذلك أنّ أي فندق أو صالة ألعاب رياضية أو صالون حلاقة مجبر على تسليم جميع الاتصالات التي تتدفق عبر شبكة الـ wifi الخاصة به إلى وكالة الأمن القومي. ويمكن أن تتحول المباني السكنية إلى مواقع تنقل المعلومات للأجهزة الأمنية. حتى عمّال تنظيف المنازل وخدمات إصلاح تكنولوجيا المعلومات الذين يمكنهم الوصول إلى أجهزة الإنترنت السكنية، يمكن تجنيدهم. وكان لافتاً تدخل عضو الاستخبارات السابق، إدوارد سنودن، ونشره تغريدة على منصة إكس تحذر من إقرار القانون المعدّل. وهنا، تدخل الولايات المتحدة في صراع يتجدّد كل مدة: كيف «توافق بين الحرية وبين متطلبات الأمن»، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وما قد يعنيه ذلك من اضطرابات مدنية كما توعد ترامب بها في حال خسارته.