لن تكفي عشرون سنة لاكتشاف أمل عرفة على المستويين الفني والإنساني، لأنّها طرحت نفسها منذ البدايات كمؤسسة فنية متكاملة: تغني، ترقص، تؤدي، تقلّد، وتقدّم البرامج... عدا عن أنها أصلاً تمثّل، بل تُجيد ببراعة أصعب الأدوار وأكثرها تعقيداً وتركيباً. والدليل أنّها راكمت أرشيفاً غنياً بالنجاحات، وصنعت تاريخاً عامراً، لا يمكن للسنين مهما تعاقبت أن تمحو أثره. هي «العنقاء» في «الجوارح» و«سهام القناديلي» في «حمّام القيشاني» و«سمر» في «عيلة خمس نجوم» و«فضّة» في «خان الحرير» و«دنيا» و«عشتار» في عملين يحملان الاسمين ذاتهما، وبتوقيعها على النص ككاتبة مع شركاء، إضافة إلى عشرات الشخصيّات التي حفرت عميقاً في وجدان المشاهد. كأنّنا بصاحبة تلك الشخصيّات في هذا المشوار المترف، تقول لكل متابع: «تعال وتابعني ومهما تحاملت على الشخصية أو تأثّرت بها سلباً، عليك أن تحبّني كممثلة». أما على المستوى الإنساني، فيمكن لأمل عرفة أن تتّصل بقصد عتاب أحد أصدقائها، أو حتى الجدال معه على مسألة عالقة، وما إن تجد حزناً ينضح من صوته، حتى تنصرف بكلّها تبحث معه عن السبب، وتهمّ لمساعدته وإيجاد مخرج مما هو عليه متناسية سبب الخلاف أصلاً!كانت 2007 سنة كبيساً بمعناها المجازي رغم قسوة ما تلاها من صفحات الحرب والدمار والنار التي التهمت قسطاً وافراً من سوريا. في تلك السنة، شيّعت الممثلة السورية المرموقة والدتها واكتشفت متأخرة كما كانت تقول لنا دوماً بأنّ الحياة مجرّد مزحة سمجة وثقيلة الدم، وبأنه فعلاً سيصبح لونها خاكياً مثل بدلة محارب مهزوم عندما تغلق آخر أبواب الرحمة برحيل الأم كما تقول الرواية الدينية. ظلّت أمل إلى اليوم تطرب من كلّ من يقول لها: «تطبخين مثل أمك وتغنين بنفس جمال صوتها». أما الأب الموسيقار الكبير سهيل عرفة، فكان لانطفائه رواية بذات السوية من القسوة، وهو الذي جعلها منذ طفولتها تتناول غداءها مع وديع الصافي، وفي الليلة نفسها تتعشى مع فيلمون وهبي. عندما رحل، أفضت كلّ ما في جعبتها من انهيارات أمام جموع المعزّين. قبل قرابة 18 عاماً، كان احتفال إطلاق نصوص مسرحية في كتاب لزوجها السابق عبد المنعم عمايري، كفيلاً بأن يكشف للجمهور خصوصية علاقتها بابنتها الأولى سلمى، ثم مريم. الأولى لن تتوانى عن مصارحة الأقلام الصحافية القاسية بأنها لن تغفر لها يوماً كونها كانت سبباً في بكاء أمها ذات مرة!
سويتها الأدائية في «اغمض عينيك» تنتشل المسلسل من البرود والرتابة


الفرضية الحياتية الموغلة بالعمق في العلاقة الأزلية بين فتاة وأمها، ثم استمرارية هذه العلاقة مع هذه الفتاة عندما تصير أماً وتصوغ علاقة لافتة مع ابنتيها، هي غالباً المعادلة ذاتها التي تقبع وراء الصيغة المبنية بإحكام بين الفنانة السورية والطفل زيد البيروتي في مسلسل «اغمض عينيك» (كتابة أحمد الملّا ولؤي النوري ـــ سيناريو فادي المنفي ــــ إخراج مؤمن الملّا). نحن هنا أمام أم عازبة (أمل عرفة) تسعى إلى تحسين أوضاعها المادية بقصد رعاية ابنها الوحيد الذي يعاني من اضطراب طيف التوحّد، فتتورط عن غير قصد في قضية مخدرات، وتلبس القصة منفردة، ويُحكم عليها بالسجن لمدة 15 عاماً. هذا الاقتراح الإنساني النقي في الحكاية الدرامية، تؤخذ عليه رتابة القصة وهدوؤها الزائد، ومراوحة الشخصيات والأحداث مكانها لحلقات عدّة. إلا أنّ السوية الأدائية والشغل التجسيدي المعافى من المنكّهات والمبالغات، وخصوصاً عند نجمة المسلسل وصاحبة الشخصية، تنتشله من أيّ برود، وتعوّضه عن التشويق المطلوب والتصعيد العالي. هذا الموسم تضيف أمل عرفة صفحة مضيئة في تاريخها الفني وتعلّق في خزانة شخصيّاته الخالدة «راكوراً» جديداً للسيدة «حياة» التي طحنها الظلم، فواجهته بكل هذا الصدق والانتماء.

* «اغمض عينيك»: على LTV (س: 19:00)، و«رؤيا» (س: 22:00)، و«السومرية» (21:00)، و«التلفزيون السعودي» (س:23:00) و«شاهد» (00:30)