«صندوق باندورا» الذكاء الاصطناعي فُتح منذ نهاية العام الماضي، ولا أحد يعلم ما سيخرج منه. القفزة الحاصلة في هذا المجال، التي تتطور يوماً بعد يوم بشكل لا يمكن استيعابه، يحاول المشرّع الأميركي ضبطها وقوننتها بشكل يسمح له بالسيطرة عليها. ولأن هذا المشرّع نفسه لا يعرف كيفية عمل تلك الأنظمة (في الواقع هو لا يعلم حتى بكيفية عمل تيك توك، وجلسة استجواب الرئيس التنفيذي للتطبيق أمام الكونغرس كانت سريالية)، استدعت واشنطن عمالقة وادي السيليكون لمساعدتها في سنّ القوانين. عمالقة باتوا آلهة عالم الديجيتال، بعضهم يسيطر على السوق الرقمي منذ التسعينيات، وآخرون سرقوا انتباهنا عبر خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي وجعلوا المستخدمين أسرى الشاشات. وواشنطن، «بِكلّ حِكمتها»، طلبت مشورتهم!حضر أكثر من 60 عضواً من مجلس الشيوخ الأميركي جلسة الإحاطة المغلقة، بالإضافة إلى 20 من قادة التكنولوجيا والشخصيات المؤثرة في هذا المجال، على رأسهم الرؤساء التنفيذيون لكلّ من غوغل وIBM وميتا ومايكروسوفت وإنفيديا وOpen AI وبالانتير وإكس، بالإضافة إلى الرئيس التنفيذي السابق لمايكروسوفت بيل غايتس، والرئيس التنفيذي السابق لغوغل إريك شميدت.

(محمد نهاد علم الدين)

يُنظر إلى الاجتماع على أنّه فرصة تاريخية لصنّاع التكنولوجيا للتأثير في كيفية سنّ المشرّعين القواعد التي يمكن أن تحكم الذكاء الاصطناعي، ولكنه أيضاً يمثل تحدياً لإيجاد أرضية مشتركة بين وجهات النظر والمصالح المتنوعة. تناول الاجتماع مواضيع مثل الفوائد والمخاطر المحتملة للذكاء الاصطناعي، والحاجة إلى الشفافية والمساءلة، وتأثير الذكاء الاصطناعي على الوظائف والمجتمع، ودور الحكومة في الإشراف على تطوير الذكاء الاصطناعي ونشره. كما تناول القضية الملحة المتمثلة في حماية الانتخابات الأميركية لعام 2024 من حملات التضليل التي يدعمها الـ AI، بالإضافة إلى إحدى أبرز المسائل التي طرحت من أعضاء مجلس الشيوخ والحاضرين، وهي: «الحفاظ على قيادة الولايات المتحدة على المسرح العالمي».
أعرب قادة التكنولوجيا عن دعمهم لنهج «متوازن» يرمي إلى تنظيم الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يعزّز الابتكار والقدرة التنافسية مع ضمان الاستخدام «الأخلاقي والمسؤول» لهذه التكنولوجيا. كما سلّطوا الضوء على إنجازات ومساهمات شركاتهم في تطوير أبحاث وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجالات المختلفة، مثل الرعاية الصحية والتعليم والنقل والترفيه والأمن. وشددوا على أهمية التعاون بين مختلف أصحاب المصلحة في النظام البيئي للذكاء الاصطناعي، بما في ذلك الأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني والمنظمين وصانعي السياسات. رئيس ميتا التنفيذي، مارك زاكربيرغ، كان الأكثر وضوحاً، إذ عبّر عن اعتقاده بأنّه «من الأفضل تحديد المعايير المرتبطة بقوننة الذكاء الاصطناعي من قبل الشركات الأميركية التي يمكنها العمل مع حكومتنا لتشكيل هذه النماذج في القضايا المهمة». بكلمات أخرى، يشير مارك هنا إلى المنافسة الاستراتيجية مع الصين، وهو أمر يكرره منذ عام 2019. هو يريد أنظمة ذكاء اصطناعي عالمية تديرها أميركا صورياً، ومن خلفها الشركات الأميركية. وهذا أخطر ما قيل!
بعد انتهاء الاجتماع المغلق، قال شومر للصحافيين: «سألت الجميع في الغرفة: هل تحتاج الحكومة إلى لعب دور في تنظيم الذكاء الاصطناعي؟ ورفع الجميع أيديهم تعبيراً عن تأييدهم للفكرة، على الرغم من أنّهم يتمتّعون بوجهات نظر منوّعة. وهذا يعني أنّه يجب التصرف، على الرغم من صعوبة العملية». يشعر المشرّع الأميركي أنّ دخوله التنظيمي إلى صناعة الذكاء الاصطناعي تأخّر، وهو يقارن نفسه ببرلمان الاتحاد الأوروبي الذي تحرّك سريعاً. لكن الأخير عاد وغيّر قوانينه، بحيث بدا كأنه يتخبط أمام موضوع لا يفهمه. وبهذا، تأتي الإحاطة التي قام بها قادة التكنولوجيا، ظاهرياً، لتؤكّد أنّ الكونغرس يخطو في الاتجاه الصحيح. في مقابلة مع موقع «أكسيوس» بعد الإحاطة، قال شومر: «هذه إحدى أصعب القضايا التي يمكن للكونغرس التعامل معها على الإطلاق... إنّها معقدة للغاية، حتى إنّ إريك شميدت، قال إنه لا يفهم الخوارزميات». وأضاف زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأميركي، إنه يتصوّر أنّ الذكاء الاصطناعي سيتبع نموذج قانون CHIPS (أشباه الموصلات والشرائح الإلكترونية) والعلوم نفسه، حيث ستتم متابعة التشريعات بطريقة مشتركة بين الحزبين (الجمهوري والديموقراطي)، على أن تعتمد اللجان على المعلومات العلمية والتقنية من الإحاطات.
ستأخذ هذه الشركات الذكاء الاصطناعي إلى أماكن خطرة بحجة المنافسة مع الصين

وأخبر شومر موقع «أكسيوس» أنّ منتدى الذكاء الاصطناعي المقبل في مجلس الشيوخ، سيركز على الطريقة التي يمكن للحكومة من خلالها تشجيع الابتكار للتخفيف من مخاطر الذكاء الاصطناعي و«إطلاق العنان لإمكاناته». وعلى الرغم من أنّ شومر يواجه انتقادات مرتبطة بأنّ الجلسة مع قادة التكنولوجيا كانت مغلقة، وأنّ أعضاء مجلس الشيوخ لم يتمكنوا من طرح الأسئلة مباشرة على الضيوف، قالت السناتورة إليزابيث وارين (ديموقراطية وأحد أبرز منتقدي شركات التكنولوجيا) لأهل الإعلام: «جميع أعضاء مجلس الشيوخ يجلسون هناك ولا يطرحون أي أسئلة، هذا ما يحدث». وحثت على إنهاء «المعاملة الخاصة» لشركات التكنولوجيا الكبرى و«صناعة التكنولوجيا». إلا أن الاجتماع انتهى بالتزام الجانبين بمواصلة الحوار والتعاون بشأن تنظيم الذكاء الاصطناعي.
يمكن اختصار اجتماع الأسبوع الماضي بأنّه تثبيت لموقع شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى في عالم تبدّل شكله منذ إطلاق «تشات جي بي تي». ومن الضروري عدم الاستخفاف بما يحصل هنا، فالأمر ليس مجرّد روبوت دردشة نستطيع التواصل معه ويجوب الإنترنت بحثاً عمّا نأمره به. هو سباق تسلّح، أشد خطورة من القنبلة الذرية. تأثير الذكاء الاصطناعي الذي سينتج عن تركيبة تجمع شركات جشعة في ظل نظام رأسمالي تقوده إمبراطورية، سيكون مرعباً. الأميركي سلّم صياغة القوانين لعمالقة التكنولوجيا، وتلك الشركات، بحجة التباري في ما بينها والمنافسة مع الصين، ستأخذ تطوير الذكاء الاصطناعي إلى أماكن خطرة. هل يمكن لأحد منّا أن يتخيل ماذا يعني أن تكون هناك إمبراطورية مدعومة بالـ AI، وكيف سينعكس ذلك على جوانب حياتنا كافة؟