غداً موعدٌ إضافي في «مهرجان البستان». نجمان من الأكبر في جيلهما يحلّان سوياً في أمسية واحدة: ألكسندر كانتوروف (بيانو) ودانييل لوزاكوفيتش (كمان) يقدّمان سوناتات لفرانك وغريغ ودوبوسي. من جهة أخرى، شهد هذا الأسبوع من «البستان» حدثاً موسيقياً لم يُحدَّد بنمط واحد ولم يتبَع بروتوكولات الموسيقى الكلاسيكية. أبطال الحدث الذي امتد على ليلتَين هم آل بيريزوفسكي: بوريس الأب، والزوجة والأولاد. الموعد الأول أحياه عازف البيانو الكبير بوريس بيريزوفسكي (1969) مساء الثلاثاء معدِّلاً قليلاً بالبرنامج. استهل الأمسية بالسوناتة الثامنة لبيتهوفن، بأداء لم يرقَ إلى مستوى عازف بحجمه. أولاً، من الواضح أن الرجل ليس على يرام نفسياً. هو حزين. رَقَص في الأمسية الثانية، كذاك الطير في بيت الشعر الشهير. الحزن يكون غالباً دافعاً لتقديم الأفضل في الموسيقى الكلاسيكية، لكن ليس عندما يجتمع مع الغضب.

والغضب هذا سبّبه جزء من الجمهور الذي يعتقد بالمطلق أنّ «ما يقوله أهمّ ممّا يسمعه». بعدها، فجّر العازف الروسي السوناتة رقم 11 أيضاً لبيتهوفن، في أداء مذهلٍ، بعدما استبدل بها الرقم 13 (في البرنامج المعلَن)، قبل أن يقدّم أعمالاً لمؤلفين من روسيا، على رأسها إعدادٌ للبيانو يحمل توقيع بروكوفييف لتحفته «روميو وجولييت»، وقد شكّل ذلك قمّة الأمسية لناحية الأداء. الـ«سكيرزو» رقم 2 لشوبان كان المفاجأة السارّة وغير السارّة في آن، إذ استبدل به بيريزوفسكي عملاً كم كان جميلاً أن نسمعه منه، ونقصد «عصفور النار» (مقتطفات معدَّة للبيانو) لسترافينسكي. في شوبان كان بوريس ممتازاً في «الأطراف» وعادياً في «الوسط» التأملّي لهذه المقطوعة… أما الـbis فكان «بيريزوفسكيّ» لناحية عدم توقّعه، حيث دعا من طالبه بـbis من الجمهور إلى ملاقاته في «حديقة البستان»، لبرنامج… بلوز! فقد رافق الرجل إلى بيروت، بالإضافة إلى عائلته، ثلاثي «بلوز دكتورز»، بفعل غرامه بهذه الموسيقى في السنوات الأخيرة كما قال. الليلة الثانية كانت عائلية: القسم الأول من القسم الأول تولّته ابنته إيفلين، التي لعبَت ثلاث مقطوعات لرافيل. أداؤها كان جيداً، لكنّها اعتمدت إيقاعاً سريعاً وثابتاً، في أعمالٍ أكثر ما يليق بها البطء والاضطراب الإيقاعي (راجعوا تسجيلات الإيطالية بياتريشه رانا أو الروسية آنّا فينيتسكايا). ذورة المفاجآت أتت من ابنته الثانية الأوزبكية الملامح (زوجة بوريس الثانية من أوزبكستان): ماريا، فتاة عمرها 15 سنة أو ربما أقل، بريئة ورقيقة، وعازف محترفة على آلة الماريمبا. أمّا العمل الذي اختارته فلا يمكن إيجاد أفضل منه ليعبّر عن شخصيتها: «روندو» من الـHaffner Serenade لمواطنها في بلاد البراءة والرقّة، موزار. رافق بيريزوفسكي ماريا على البيانو، ممثلاً الأوركسترا، وقلّبت زوجته صفحات المدوّنة الموسيقية، في حين أدّت «البنّوت» دور الكمان في العمل الأصلي، مدرجةً حتى الـcadenzas التي تتخللها هذه الحركة (أي المساحات المحجوزة للارتجال). خرجت ماريا على وقع تصفيق حاد، لتسلّم من جديد المسرح إلى إيفلين، لكن هذه المرة في عمل لدوبوسي جمعها بوالدها على البيانو، قبل أن ينفرد هو بالـ«رابسودي إن بلو» مقدّماً أداءً «أوركسترالياً» ليس غريباً عمّن حضروا أمسيته قبل سنتَين في «البستان». بعد الاستراحة، دخل بوريس وقدّم «الفتيان المجانين» كما وصفهم، لتنتقل الأمسية من الكلاسيك إلى البلوز عبر «جسر غرشوين» الذي سبق الاستراحة. فعلاً مجانين، لكن بقلوب نقية. عازف الغيتار طفل بجسد عملاق، كاد أن ينزل ويعبط كل حاضر/ة في الصالة، عندما كان تخونه الكلمات وحتى الموسيقى، فاكتفى بأن جال بين الكراسي لالتقاط حرارة جمهورٍ بادله الحماس والعاطفة. قدّم الـ«دكاتِرة» بضع أغنيات بدايةً، ثم لاقاهم بوريس بنفسية الأب الحاضن والمشجّع، عازفاً معهم على بيانو رقمي. وعندما حَمِيَت الأجواء، نزل كأس الويسكي من السماء وحط على الأرض بالقرب منه، فراح يعزف ويشرب ويرقص ويغنّي ويتألّم.
في منتصف وصلة البلوز، دعا الثلاثي الروسي إلى المسرح زميلهم الذين تعرفّوا إليه بحكم تواجده في المهرجان، عازف الأكورديون الفرنسي فيليسيان بروت. الرجل يشبه لدرجة ملفتة، بالشكل فقط، إيمانويل ماكرون، وزميله عازف الغيتار الروسي يحيل، بالشكل فقط، إلى رمضان قديروف. ما أعظم الموسيقي. ما أصغر السياسي.

https://www.icloud.com/photos/#020y1KOXzsq3jdRRhcIwsrrcg