دمشق | ماذا تنتظر من عامٍ بدأ بزلزال؟ كأن سنوات الحرب المدمّرة لا تكفي لتأليف التراجيديا السورية. من تحت الركام، نستعيد الاستغاثات وقوائم الغائبين، فمفكرة 6 شباط (فبراير) لا تشبه ما بعدها، لجهة الأسى. ههنا فالق صخري في الرأس يصعب نسيانه. صور سريالية عصية على الفهم، ومشهديات مرعبة، غير قابلة للمحو، كما لو أننا إزاء متحفٍ للأنقاض. كنّا نرغب بزلزال ثقافي لا جيولوجي فقط. زلزال يخلخل سكونية الخشبة، وشحوب صالات السينما، وموت الصحف الورقية، عدا التماعات خاطفة هنا وهناك. لكن هذه الجرعات لا تكفي لشفاء المريض، كما أنها لا تشكّل منعطفاً في الثقافة السورية التي تراوح مكانها منذ سنوات. كان الحريق الذي شهده حي ساروجة الأثري حدثاً مؤلماً، وخصوصاً أنه امتد نحو «مركز الوثائق التاريخية» الذي يقع في قلب الحيّ، هذا المركز الذي يضم نحو خمسة ملايين وثيقة نادرة تعود إلى حقبة العهد العثماني، وفترة الانتداب الفرنسي، وحكومات الاستقلال (سجلّات المحاكم الشرعية، ووثائق أصول العائلات الدمشقية، والفرمانات السلطانية، والصحف، والجريدة الرسمية «السالنامة» والمخطوطات النفيسة). ستُطوى الصفحة، من دون أن يصل أحد إلى فكّ لغز الحرائق المتعاقبة، أو أن يُجيب عن الأسئلة حول سلامة هذه الوثائق.
صدور فيلم وكتاب عن مسيرة يوسف عبدلكي (الصورة لوحة من فحم وورق على كانفاس ـــ 104 × 104 سنتم ـــ 2022)

على المقلب الآخر، يصعب إحصاء أرقام عدّاد الموتى في خانة المبدعين، ذلك أننا قضينا أوقاتاً في صالات العزاء أكثر من تلك التي خصصناها للشأن الثقافي. هكذا غاب أولاً، الشاعر شوقي بغدادي طاوياً سيرة مثقلة بالذكريات. فهذا الشاعر الدمشقي العتيق خبر حياة طويلة سجّلها بأحبار مختلفة. دائماً ما أبحرت سفينته في أكثر المياه عمقاً، من دون أن يصل إلى يقين، في تجوال طليق بين الشعر والقصة والرواية والصحافة والسجالات الثقافية. حنجرة غاضبة لم تتوقف يوماً عن الهتاف، وإذا به يؤرّخ لقرن مضطرب بكل أحلامه وخيباته وآماله. وستتبعه التشكيلية الرائدة ليلى نصير بعد رحلة شاقة مع الوحدة والألم والخسارات. القوس المشعّ الذي خطّته التشكيلية السورية الرائدة بجرأة وتمرّد وعنفوان، أُغلق على جسد نحيل فوق سرير في دار المسنين. كما غيّب الموت الموسيقار أمين الخيّاط ليلتحق بكوكبة من الملحنين السوريين الذين وضعوا الأسس المتينة للأغنية السورية أمثال سهيل عرفة، وعبد الفتاح سكر، وشاكر بريخان. لكن الخيّاط شقّ طريقه منفرداً إلى العزف على آلة القانون. وخسرت مدينة حلب عبد الفتاح قلعه جي، تاركاً في رصيده نحو 100 مسرحية، إضافة إلى بحوث جدية حول المسرح العربي في محاولات دؤوبة لتأصيل نص يضيء الخشبة كفرجة شعبية في المقام الأول.
وفي طرطوس انطفأ حيدر حيدر طاوياً رحلة طويلة بين المنافي، قبل أن يستقر في سنواته الأخيرة في قريته «حصين البحر» كنوع من العزلة الاختيارية، لكنه سيودعنا مذكراته «يوميات الضوء والمنفى» قبل رحيله بأشهر، حيث يؤرخ لخسارات متتالية، وهو يرى أحوال التدهور والتدجين وحطام المدن، والخيانات. يوميات مضادة تنطوي على سخط عمومي مما آلت إليه أحلام جيله، حاملاً على ظهره سناماً من الهزائم والاندحارات والخديعة، إذ تهتز صورة المثقف الثوري أمام أهوال ما حدث ويحدث في خرائط سريالية، يعالجها ببسالة الاعترافات.
ثمّ سيخطف الموت القصّاص ناظم مهنّا، أحد أبرز أبناء جيل الثمانينيات في لحظة عبثية مباغتة أو هزّة ارتدادية تشبه مناخات قصصه العجائبيّة. خذله قلبه فجأة، في صبيحة يوم جمعة بارد، قبل أن نستيقظ من أهوال الزلزال الذي أصاب البلاد، ودفن معه «الأرض الطيبة»، و«مملكة هذه التلال»، ومتاهات أخرى ميّزت نصوصه التجريبية.
وسيدفن الروائي وعالم الاجتماع حليم بركات في منفاه الأميركي، بعد أن شهد وقائع قرنٍ كامل لعالم عربي كان يتهاوى تحت ضربات الحروب والهزائم كما سجّلها في رواياته مثل «ستة أيام»، و«عودة الطائر إلى البحر»، إضافة إلى عمله على توثيق واقع مخيمات النزوح الفلسطينية ميدانياً. وسنفتقد أيضاً، المترجم رفعت عطفة الذي أهدى لغة الضاد نفائس من لغة سرفانتس بما يربو على نحو 70 عنواناً، أبرزها «دون كيخوته» لميغيل دي سرفانتس، ومذكرات غابرييل غارسيا ماركيز «نعيشها لنرويها»، و«البيت الأخضر» لماريو فارغاس يوسا، و«صورة عتيقة» و«الخطة اللانهائية» لإيزابيل الليندي، و«المخطوط القرمزي» لأنطونيو غالا، و«كتاب التساؤلات» لبابلو نيرودا. على أن الفجيعة الكبرى التي أصابت الوسط الثقافي بضربة لا تحتمل، هي رحيل الروائي خالد خليفة، قبل أن يُتم عامه الستين على إثر جلطة قلبية باغتته وحيداً في منزله في دمشق، من دون أن يتمم البروفة النهائية لمخطوطته الروائية الأخيرة «غرفة بصاق للعمّة» التي أرادها تحية لمدينة اللاذقية التي استقر جزئياً على ضفاف بحرها، في أعوامه الأخيرة. كما لن يتمكن من إتمام الدفتر الثاني من «نسر على الطاولة المجاورة» الذي خصصه لتجربته في الكتابة ومفهومه للسرد الروائي، فيما أقيم معرضه التشكيلي الأول في صالة في المنامة بغيابه في صالة «آرت كونسيبت»، لكنه حضر عبر عرض لمجموعة من الأفلام القصيرة والمقابلات مع الراحل. وقبل أيام غاب الموسيقار نوري إسكندر في منفاه السويدي، تاركاً خلفه كنوزاً من التراث الموسيقي السرياني.
حضر يوسف عبدلكي بأكثر من مرآة، إذ استضافته «غاليري كامل» في دمشق في معرض لأعماله الأخيرة، حيث يستنطق كائناته بالأبيض والأسود في مسعى لأرشفة وقائع العشرية السوداء التي طوتها البلاد جزئياً بحدّ السكين في جداريات تختزل فهرس الكارثة. وفي وقت لاحق، أصدرت الغاليري نفسها ألبوماً ضخماً يوثّق أعمال هذا التشكيلي البارز في فترة السبعينيات من القرن المنصرم. من جهته، حقّق المخرج محمد ملص وثائقياً عن تجربة يوسف عبدلكي بعنوان «أنا يوسف يا أبي» في رصد حميمي لأبرز محطاته التشكيلية. لِنقل إنّ العام المنصرم كان تشكيلياً في المقام الأول نظراً إلى عودة الصالات إلى العمل بعد توقّف، فتابعنا معارض بتواقيع غسان نعنع، وإدوار شهدا، وعبد الله مراد، وفادي يازجي، وجمعة نزهان، وسبهان آدم، إضافة إلى أكثر من ملتقى للنحت، فيما استعاد منذر مصري أعماله المبكّرة في معرضٍ لافت. وقبل أن يطوى العام، صدرت أعماله الشعرية الكاملة في ثلاثة مجلدات (دار أثر)، ومختارات شعرية بعنوان «خطوات على مسطبة إسمنت حديثة الصّب» (دار راية للنشر).
ستمرّ مئوية نزار قباني بلا صدى يوازي العاصفة الشعرية التي حققها في مسيرته الاستثنائية كظاهرة بحجم قارة شعرية كاملة دائماً ما عملت على معاكسة التيار، بثورته على معجم الخدر والغيبوبة والدروشة، ساعياً إلى تغيير طقس العالم وكتاب العشق. هكذا جاءت احتفالية «أنا وردتكم الدمشقية» التي توزعتها المراكز الثقافية في دمشق باهتة مثل واجب مدرسي ثقيل، لا تليق بقامته الشامخة وحضوره في الذاكرة الجمعية العربية.