في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، رفعت «الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال – فلسطين»، وعدد من منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية، وفلسطينيون في غزة والولايات المتحدة، دعوى قضائية في محكمة فيدرالية أميركية ضد الرئيس جوزيف بايدن، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع لويد أوستن لفشلهم في منع الإبادة الجماعية الإسرائيلية التي يتعرّض لها أكثر من مليوني فلسطيني في غزة، بل للتواطؤ فيها.
الصورة المتوّجة أول من أمس بجائزة World Press Photo لعام 2024، التقطها مصوّر وكالة «رويترز» محمد سالم في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 في أحد مستشفيات خان يونس أثناء القصف الصهيوني

الفلسطيني الأميركي المقيم في كاليفورنيا محمد حزر الله، هو أحد المدّعين على رموز الدولة ـ الإمبراطوريّة. منذ بداية العدوان على غزة، قتلت القوات الإسرائيلية سبعة من أفراد عائلته الممتدة، بمن فيهم طفل يبلغ أربع سنوات. ظلّ حرز الله على اتصال منتظم بأسرته الممتدة، بما في ذلك ابنة أخيه الصغيرة التي أرسلت إليه مقاطع فيديو متكررة عبر تطبيق واتس آب لإعلامه بأنها لا تزال على قيد الحياة، وحثّه على فعل شيء لوقف الإبادة الجماعية ضد شعبها. اضطرت الصبيّة إلى الفرار من منزل عائلتها في شمال غزة باتجاه الجنوب، وأبلغته تالياً بأنها لم تعد قادرة على بعث رسائل فيديو إليه لأنّ العائلة المضيفة تخشى الانتقام، إذ يُعتقد أنّ الفلسطينيين الذين ينشرون على وسائل التواصل الاجتماعي، مستهدفون بالغارات الجوية الإسرائيلية. خاطب حرز الله المحكمة، قائلاً: «لقد فقدنا الكثير من الناس، لكن ثمة من ظلّ على قيد الحياة، ونحن مدينون له ببذل كل ما في وسعنا لوقف هذه الإبادة الجماعية. لقد فعلت كل ما في وسعي: شاركت في الاحتجاجات، والاعتصامات، وكتبت رسائل إلى ممثلينا، وللمنظمات الأهليّة. والآن أطلب من المحاكم إنهاء هذه الإبادة الجماعية المستمرة». لكن المحاكم ــــ أعلى الجدار الأخير في النظام (الديموقراطي) ـــ أسقطت الدعوى! ماذا يترك هذا من خيارات للمواطن الأميركي العادي، ناهيك بالمثقف في مواجهة تعسّف الإمبراطوريّة؟
بيتر ديموك، الروائي الذي طالما انشغل بالقوة الكامنة للغة، قرر أمام هذه الكارثة التي تلفّعت برداء القانون أنّ تحقيق العدالة التاريخيّة يبدأ من داخل عقل كل شخص منّا عبر تحرير اللغة ــ كل في فضائه ـــ وعبرها تحرير الفكر، وإطلاق روح التأمل النزيه. فاللّغة نفسها واحدة من عديد ضحايا الإمبراطورية، وأيّ أمل لدينا في التغلب على الأزمات الوجودية التي نواجهها، بما فيها نسق الإبادة العلنية الفاجرة هذا، يعتمد بالضرورة على تحرير اللغة من أغلال الرأسمالية الإمبريالية المتأخرة.
ديموك الذي روّعته بلادة المحكمة اختار أن يتأمل عجزنا الجماعي بلغة تجريبية متحررة في «الشظيّة»: رواية ليست أقل من تفكّر أدبيّ معمّق في منطق إفلات الدولة من العقاب على ممارستها للعنف. يستعير ديموك للقرّاء الشخصيات الرئيسية الثلاث من روايته السابقة «مفكرة يومية من شيب ميدو» (2021): المؤرخ تاليس مارتينسون، وشقيقه التوأم، كريستوفر مارتينسون، وابنة تاليس، كاري مارتينسون وينسلو. بعدما عانى من انهيار عصبي، نُقل تاليس إلى المستشفى في حالة من الجمود شبه الكامل. يزوره كريستوفر وكاري بشكل متكرر على أمل أن يتعافى يوماً ما. علّته هو صراعه لسنوات في مقاربة فظائع الإمبراطوريّة الأميركيّة كما يصفها في تأملات يومية يدوّنها في دفتر ملاحظات. يحاول تاليس بناء طريقة للتأريخ توجه الفكر الشخصي للفرد خارج لغة الإمبراطوريّة، لكن عندما تخذله الكلمات، يلزم نفسه بالعيش في عيادة للصحة النفسيّة، حيث يعتصم بالصمت، ويصوم عن الكتابة. وبينما يجاهد شقيقه كريستوفر لتحليل النصوص في دفتر ملاحظات تاليس، علّه يقدر على التفاهم معه لدى زيارته في العيادة، يجد نفسه منغمساً بكليته في تاريخ الفظائع الإجرامية التي ارتكبتها، وترتكبها حاضراً النخبة السياسية المهيمنة على بلاده.
يدفع ديموك في «الشظية» حدود البنية السردية لإنشاء شكل أدبي جديد حيث يوضع التاريخ، والفلسفة، وقرارات المحاكم، والتحف الثقافية، وشطحات الخيال جنباً إلى جنب، مع كثير من التأمل، والترتيب، وإعادة الترتيب لفسيفساء متغيرة من اللغة والصور. لكن هذه ليست ما بعد حداثة أدبيّة بالمفهوم التقليدي، إذ ليست غاية ديموك الصدمة أو الإساءة، ناهيك بالترفيه أو صرف الانتباه عن الواقع/ الحقيقة. إنها محاولة مخلصة من نفس نبيلة لخلق لغة أدبيّة قادرة على وصف ومحاججة ومناهضة اللحظة التي نعيش بكل ما فيها من عنف ورعب وعجز ويأس، لعل أملاً بالتحرر يولد من وراء هذا الجدال الممكن ـــ حالياً ــــ حصراً على الورق.