كعويل ذئاب جائعة خدشت صفارات الإنذار زجاجَ نافذتي ذاك الصباح.أدرتُ ظهري نحو الشباك وأكملتُ نومي، حتى لو أتت القذيفة، وحتى لو دمّرَت العمارة الواقعة على رأس الشارع حيث مطعم البيتزا الذي أكره، ثم اخترقت جميع درابزينات الحدائق المجاورة، سيحميني شيء ما، لا شك، ربما الزجاج؟
لا أحب العويل، تماماً كما لا أحب صوت الكمان. لا أطيق حشرجاتِه، أهرب من الرعب والرغبة بالبكاء اللذين يثيرهما في نفسي، هي ليست ترسّبات، فطفولتي لم تكُن معذّبة بل مدثرة بصوتِ عود أبي، ولصوت العود بقي في نفسي أثر قطرات الفضة السائلة من طرف هلالٍ، كان يومها يقيمُ في سماء عكّا، قبالة نافذتنا.
كعويل ذئاب جائعة، عاودت الصفارات غزوَها ضحى ذاك اليوم.
يوم سقطَ الإنسانُ عارياً من كل قيمة. أدرتُ صدري نحو الزجاج هذه المرة، فلتأتِ القذيفة. وماذا بمقدور غزة أن تطلق نحو القدس سوى رشقات من أنينها؟ نحن، الملحدين، قد نسخر لتسييس الإله، ولتجييش «روحِه القدُس»، لكن الحروب لا تبادلنا النكات ولا هي تتحايدنا، بل تقتلنا أيضاً كما لو كنّا من غلاة المؤمنين. حينها قمتُ من سريري.

عمل رقمي للفنان الفلسطيني فؤاد اليماني

رأيتُ «الشعب الإسرائيلي» وقد تحوّل عن بِكرةِ أبيه إلى جنديّ واحد أحد! جنديّ مدجّج بالنقمة التوراتية. رأيتُ مجتمعاً كاملاً متكاملاً بصحافييه، علمائه، شقراواتِه، شعرائه، عارِضي أزيائه وجنرالاته السابقين كاللاحقين، وكلّهم قد أصيبوا بنفس الظمأ إلى دمِ الأغيار. رأيتُ لغتي مصفّدة ومسحوبةً من ضفائرها إلى ساحة إعدام هُيِّئَت على عُجالة. رأيتُ اسميَ يجري هلِعاً وعلى جبينه صليبٌ من رماد، فيستدلّ إليه القنّاص. مرّ بجانبي ولم يلقِ عليّ التحيّة، لكنني لم أعاتبه ولا أنا غضبت. فمن أدرى مني بالنقمة التوراتية؟ من أدرى بالظمأ إلى دمِ الحِثّيّ والجرجاشيّ والكنعانيّ والأموريّ؟! وهكذا انطلقَ اسمي العربيّ يجري ويتعثّر ثم يقوم ويمضي لاهثاً كسائر الأسماء التي تشتهيها المقصلة.
شاشة البلازما الرقيقة أمسَت فوّهةً للجحيم. تزاحم فيها كلّ ما ليس من الحياة التي نعرف، بل ليس من حياةٍ يعرفها أحد. واسمي أيضاً كان هناك، يتزاحم. لكنه لم يعُد اسمي، لم يعُد لي، اسمي أصبحَ لفيفاً من الرجال والنساء والأطفال. اسمي الذي ألِفتُ وأحببتُ طوال حياتي قد هجَرني، فنَما واستحالَ عناقيدَ هائلة من القتلى، كُتَلاً بشريّة سائغة للطحن والحرق والتلاشي، اسمي أصبحَ: لا شيء! حاولتُ ألّا أبحث عنه بعد، فكيف يكون اسمكَ: لا شيء؟! لكن كيف تمضي في هذه الحياة ولا اسمَ لكَ؟!
كيف أمضي؟! هاتفتُ فادي العبد الله. «إيه، هلا خالد خال» أتاني صوتُه الهادئ، يناديني باسمي كأنّ الحروب والمحارق لم تكُن، بل لم توجَد يوماً. «فادي، كل هاي الأسئلة اللي عم تسألني إياها عالتشات آخر أسبوعين؟ حول العَروض وما وراء العروض، وحول كتابي، إذا أنا متذكّر منه أي شيء أصلاً؟ أرجووك! جمّعها بملفّ واحد، وابعثلي إياها. أرجوك اجبِرني أقعد أفكّر وأجاوبك عليها. أرجوك ابعدني عن شاشة التلفزيون. هيك انت بتكسب حسنة، بل حسنات في الجنّة لأنك بتنقذني من هاي الحرب الوسخة!».
قال: «إيه، أكيد! بكل سرور، مع إنه موضوع النبر إنت بذاتك كنت قايل عنّه: شائك ومعقّد..». قاطعتُه بقلّة صبري المعروفة: «لا تقلق يا صغيري، لا تقلق! راح نفكّكُه ونفكّك سنسفيلُه كمان، إنت بس ابعث يزلمة». أضاف بخنجره المهذّب: «أكيد سمعت تسجيلات درويش الحريري اللي بعثتلك من يومين؟ وأكيد سمعت المخاتلة ما بين «عجَم» و«أوج» بعد الخانة على طول؟».
«آااه طبعاً طبعاً، ولووو؟». إذ كيف أقول لفادي إن النغم لم يعد يعني لي شيئاً؟ كيف أشرح لهذا المُنقِذ، طيّب النوايا، أن عفريتة الموسيقى قد هجرتني هي الأخرى مع اسمي؟ لم تعُد تأتي إلى غرفَتي ولا تشاركني حمّامي، ولا عدتُ حتّى أسمعُ خرفشتها في قُمرة سيارتي حيث كانت توافيني دائماً. في سيارتي، كانت ولادة كلّ فكرة نغميّة تخيّلتها في حياتي، جميعها وُلِدَت من دندنةٍ همستها العفريتة المقيمة هناك. لم تكن تخشى شيئاً، لا الزنّانات التي أدمَنَت انتهاك ليل رام الله، ولا فوهات الدبابات ولا حتى حافلات المسافرين الملتصقة بنا والمعرضة للانفجار كل لحظة. لا شيء أسكتَ دندنتها ما دمنا وحيدَين تماماً، دائماً أرافقها. تنطلق سجيتانا بالشدو حتى الطبقات العالية، كأن المدافعَ اختفَت كلُّها. لا بد من سفرٍ إذاً، علّ المدافع تختفي؟ لم تكد سيارتي تقطع كيلومترات معدودة تاركةً العاصمة المُجيّشة خلف ظهرنا حتى عاد وجهه! هو - من هربت منه ومن شاشة البلازما - قد عاد لينشر نفسَه على اتّساع الواجهة الزجاجية أمامي. ولدٌ في العاشرة، اتسعت حدقتاه كفنجاني قهوة طافحين، كهاويتين سوداوين مستديرتين تطلّان من العالم السفليّ، لم يعد يحيطهما البياض. ماذا رأى لتتّسع حدقتاه إلى هذا الحد؟ لم يقُل. هو لم يعد يقولُ شيئاً. كانت العرب تقول: إنَّ رُوحَ القَتيل الذي لا يُدرَك ثأرُه تَصِيرُ هامةً فتَزْقُو فوق رأسه تقول: اِسْقوني، اِسْقُوني!
أكُلّ الصباحات تمضي حقاً إلى غير عودة؟ غير صحيح، هي ذي صباحاتنا تستنسخ نفسها، تتكرر وتتناسل عائدةً بلا خجل. كل صباح يشرق على مجزرة، وكل مجزرة هي هشتاغ سريع التبخّر. تماماً كهذا الولد المحدّق بي الآن. عيونه سوداء كعيون والدي، هل اتّسعت حدقتاه هو أيضاً إلى هذا الشكل الجهنّمي حين وقف أمام فوهة رشاش الإعدام في نكبة 48؟ أم إن نكبته تطأطئ رأسها أمام نكبتنا الجديدة بالألوان والبث المباشر؟ وكيف لنكبة أن تطأطئ رأسها؟ وكيفَ لموسيقى أن تُسمَع بعد اليوم على سطح هذا الكوكب العبثيّ؟ أي صوتٍ يكون للنغم منذ الآن؟ أيكون صوت العود الوقور الفضيّ قائلاً: «تن تن»؟ أم «تن تن تنن»؟ فعلاً؟!
لا، لا أظنّ ذلك! هذه الحدقات تطلب عويلاً لا قطراتٍ من فضة ذائبة. فليكُن عويلاً من نصال الخناجر التي شحذها باخ، في مقطوعةٍ للكمان المنفرد، أسماها «سربَند»، بسلم ري صغير. بحثت عنها في البلايليست، وجدتُها، «نعم أنتِ، لم يعُد بالمعقول موسيقى غيرك».
كعويل هاماتٍ عطشى تكاثفت النغمات في فضاء سيارتي تلك اللحظة، جميعها تزقو: اِسْقُوني اِسْقُوني!

* موسيقي فلسطيني مقيم في القدس