طابور الذهبحين اشتدَّ الغلاءُ بدأ شارع الجنينة يزدحم بالسيدات المُتَّشحات بالسواد. يقفن في طابورٍ متعرج، أمام دكان «مشغولات البطل الروماني»، لا يظهر منهن سوى وجوه حزينة تزيِّنُها وشوم خضراء. تخلع إحداهن قرطاً، أو خاتماً، أو إسورة، أو سلسلة. تمدها بيدٍ معروقةٍ ترتجفُ إلى الخواجة «بسطا» النحيف. يزن ثقلها في يده ثم يضعها على ميزانه الحسَّاس، ليرى إن كان تخمينه صائباً. أيام الآحاد يُخرِج حصيلة المشغولات من صندوقه الخشبي. يرفعها فيسقطُ بعضُها على الأرض. يلملِمُها ويضعُها فوق النار. يفكِّر بسعادة أنه الوحيد القادر على تحويل أحزان مدينة بأكملها إلى سبيكة ذهب.

صونيا بن سليمان ـــ «الحكواتي» (مواد مختلفة على ورق ـــــ 2020)


حلم
اعتاد حنَّا أن يحلم لأهله وأصدقائه ونحن جيرانه، ويروي لنا في الصباح ما رآه. في يومٍ مشمسٍ طرَقَ بابَ بيتنا. فتحتُ له، فاندفع يحكي أنّ أبي الميت زاره في الحلم. سألته بعد أن فرغ إن كان أبي قد حمَّله رسالة معينة، فمد يده إليَّ برزمة، وفرك «العماص» عن عينيه، وهو يقول: طلب أن أوصل إليك هذا المال. مددتُ يدي والتقطتُ الرزمة. أغلقتُ الباب وأنا أفكر في تصرف أبي. لماذا لا يسلمني المالَ بنفسه ويفضِّل أن يرسله إليّ مع الغرباء؟

الغيرة
أكلنا بقايا فطيرة باللبن أنا وأخي. وضعتْ أمي الآنيةَ الفخارية السوداء على الأرض، فانكبَّ عليها كحيوان ضارٍ. لم أستطع مدَّ يدي إلا بعد أن أتى على «الوشِّ» كلِّه. أكلتُ عدة لقيمات. داهمني بعد قليل دوارٌ، وشعرت باللعاب المُرِّ يصعدُ لا إرادياً من زوري إلى فمي. طفتْ رغوة بيضاء من بين شفتيَّ، ثم داهمتني نوبات قيء متتابعة، نقلونا إلى المستشفى، وسرعان ما تركوني أغادر. عرفت أن حالة أخي أسوأ. وضعوه في العزل، وقال الطبيبُ: أمامه أربع وعشرون ساعة لو تجاوزها ستُكتب له النجاة.
رأيت الأهل يهلُّون أفواجاً محمَّلين بالعصائر والألعاب، يسألون عنه ويدعون له بالنجاة، داهمني حنق بالغ. قالت أمي بدهشة وهي تتفرّس الغضب على وجهي: أنت غيران؟ فقلت بغضب وأنا أدير ظهري لها: نعم!

الشطرنج الغيابي
يلعبه هذان السجينان في المُعتقل، كلما أمكن. كلٌّ منهما يتخيَّلُ الرقعة في رأسه. وبعد مدةِ صمتٍ ينطقُ أحدُهما بالخطوةِ التالية. دائماً ما جلستُ بجوارهما، أحاولُ معرفة من أين يجيئان بتركيزهما، وكيف يريان رقعةً غيرَ موجودة؟ مضيا يحدِّقان أمامهما كأنهما سيمضيان أبد الدهر في إكمال النزال. لم يكن يقطعُ الصمتَ سوى احتجاج أحدِهما، على تحريك قطعة، لكنهما فجأة نهضا وأمسكا بتلابيب بعضهما، وأحدثا جلبة. كانا يشبهان عودَي قصب نحيفين يتعاركان، حتى خلَّصتهما، وسألتهما بدهشة: ماذا حدث؟ فقال أحدهما مشيراً إلى الآخر بغضب: بعثر القطع لمّا شعر بقرب هزيمته!

قلق
لا إنسان أكثر بؤساً من امرأةٍ مات زوجُها وفقدت ثديها وتدرِّس مادة التربية الوطنية. تقف أمامنا بصدرٍ نصف ممسوح وملابس سوداء وبوجهٍ عليه حزن العالم وبوشم الصليب الأخضر على ذراعها، تقرأ من الكِتاب، فنبدأ في الشرود، كأنها تنيِّمُنا مغناطيسياً. اختفتْ فجأة ثم عادت بعد شهرين أو ثلاثة. فهمنا لماذا غابت ونحن نطالع صدرها الممسوح بالكامل. لم تكن قلقةً على ما فاتنا، وكنّا مثلها غير قلقين.

ملك وكتابة
ضحك الملك فؤاد ولكنه تذكَّر الرصاصة التي استقرتْ في حنجرته فانقلب حالُه إلى الغمِّ والغضب. صاح وهو يتأمل الحيرة في وجه رئيس وزرائه: يقولون إن الشعب يكرهك. يريدون التنكيل بي عبر إجباري على طردك. إذا استجبتُ لهم صرتُ ضعيفاً، وإذا لم أستجب اعتبروني ديكتاتوراً.
يحكُّ ذقنه مثلما يفعل كلما اتخذ قراراً وأضاف: لكني مقتنع بحق الشعب أحياناً!
ثم نادى بأعلى صوته: يا مليم بك...
يدخل مليم بك خادمه الأثير وهو يُعرفُ في البلاط ووسط الوزراء وعامة الشعب بإيثار الملك له حتى على خاصته، يأمره بأن يُخرِج عملة معدنية من جيبه ويلقيها على الطاولة. ويقول: الملك معناه بقاؤك في منصبك والكتابة ترحل.
يتحول وجه رئيس الوزراء إلى لمبة صفراء شاحبة، بينما تلوح ابتسامة غامضة على وجه مليم بك وهو يلقي العملة. تستقر صورة الملك من أعلى فيتنهد رئيس الوزراء. انحنى مليم بك ثم غادر، وتجرأ رئيس الوزراء فسأل: حقاً كنت ستطردني جلالتك لو كانت كتابة؟
فقال الملك: العملة الخاصة بمليم بك فيها ملك من الناحيتين يا أحمق!
ينفجر في الضحك من جديد حتى ينبح.

إفلاس
تصل إلى شركة «باتا» شحنة أحذية واحدة غالباً في بداية الصيف. لا أحد يدري كيف ذاع الخبر، يهلُّ الناس كالنمل ويقفون في طابور طويل بامتداد شارع «النقطة القديمة». يأملون ألا تنفد الشحنة قبل أن ينالوا حظهم. يصيح البائع بالخبر السيئ بعد دقائق. يتفسَّخ الطابور ثم ينقشعُ الناس كالدخان وأحدهم يتمتم: أصلاً أنا مفلس!

القفل
أمُّه لم تقبل توسلاته. ضبطته يراقب أخته من فُرجة باب الحمَّام وهي تستحم. خبطت يدها في صدرها وهي تصرخ: -حتى الشيطان لا يفعلها.
قبَّلها في منتصف جبهتها، انطبع وشم «القفل الأخضر» من رأسها على شفتيه. حاول أن ينطق ليستسمحها، أو يصرخ ليخرجها من سكونها، أو يبكي ليستدرَّ مشاعرها، ولكن صوته انحبس في فمه إلى الأبد.

(٭) أقصوصات من مجموعة بالعنوان نفسه صدرت حديثاً عن «الدار المصرية اللبنانية» في القاهرة.