دخل السودان حالة مواجهة مفتوحة بين شريكَي «مجلس السيادة»، الرئيس عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو، في سيناريو بدا مباغتاً نسبياً، بعدما غلبت التوقّعات بمناوشات محدودة لحسم ملفّ الإصلاح الأمني والعسكري. وإذ كان تداعي العملية السياسية منتظَراً في ضوء الخلل الواضح الذي اعتراها، فإن الخلفيات الإقليمية والدولية للصراع بدأت تتوضّح بشكل أكبر، وخصوصاً على مستوى التجاذب المصري - الإماراتي، والذي يتجاوز حدود الأزمة السودانية الراهنة، ليشمل ملفّات أخرى مِن مِثل الأمن في البحر الأحمر والقرن الأفريقي وليبيا وغيرها. ويفسّر ذلك الاكتفاءَ، إلى الآن، بالحديث عن مبادرة وساطة «مشتركة» في ما بين القاهرة وأبو ظبي، يَجري الكلام، بزخم أكبر، عن نظيرة لها في ما بين القاهرة والرياض.
سياقات اندلاع الصراع: تشابكات معقدة
مثّل بروز اسم قائد قوات «الدعم السريع»، في التسريبات الشهيرة لصحيفة «واشنطن بوست» عن ارتباطات روسية بمناطق النزاع في أفريقيا، مؤشّراً، بحسب البعض، إلى تراجع حظوظ حميدتي لدى الإدارة الأميركية للعب دور في ما تبقّى من المرحلة الانتقالية. لاحقاً، وبعدما سرى الحديث عن قيام الجيش السوداني بحرمان تلك القوات من مصدر دخل مهمّ مرتبط بجانب من تجارة الذهب عبر سلسلة من الحدود السودانية، ذكرت «أفريكا أنتيليجنس» (6 آذار) أن ضبّاطاً من وكالة الاستخبارات الأميركية يتتبّعون أنشطة حميدتي «من أنجامينا إلى بانجي»، في ظلّ شكوك في ضلوعه في التآمر لإسقاط الرئيس التشادي الانتقالي، محمد إدريس ديبي، وحصره مصالحه ومعاملاته التعدينية مع هيئات روسية بما فيها «فاغنر». وبدت علاقة حميدتي بـ«فاغنر»، والتي ما فتئت تتعزّز، متساوقةً مع اهتمام الإمارات بتحصين مصالحها الاستراتيجية في السودان، وهو ما تجلّى في توقيعها في كانون الأول 2022، بالتزامن مع إطلاق عملية «الاتفاق الإطاري»، اتفاقاً بقيمة 6 بليون دولار لتشييد ميناء جديد على سواحل البحر الأحمر السودانية.
يفسّر هذا السياق انفلات الأمور بشكل متسارع بين «حميدتي» وغريمه البرهان، على خلفية ظاهرية هي فشل ورشة الإصلاح الأمني والعسكري. كما يفسّر بأثر رجعي طبيعة عملية التحشيد التي سارع إليها الأوّل، وصولاً إلى لحظة المواجهة. من هنا، فإن الحجج التي يسوقها دقلو حول «تبنّيه الخيار الديموقراطي»، أو مواجهته «فلول نظام البشير والتطرّف الإسلاموي»، تصبّ في خانة مواصلته مواراة أطماعه السياسية وشبكات دعمه لها. في المقابل، بدا واضحاً تعويل البرهان على تقارب أميركي - مصري مفترَض في ملفّ الأزمة السودانية، وخصوصاً على خلفية مراوغة أطراف إقليمية حليفة لواشنطن في اتّخاذ مواقف حاسمة من تمدّد النفوذ الروسي، تعزّزت مع ما كشفته تسريبات «البنتاغون» (مطلع الجاري) من ترتيبات روسية - إماراتية لتنسيق عمل استخباراتي ضدّ «وكالات الاستخبارات الأميركية والبريطانية». وتَسلّح البرهان بالتقارب المشار إليه - على رغم كونه متذبذباً ومائعاً هو الآخر - لمقاومة ضغوط سفارات عربية في الخرطوم منذ نهاية آذار الماضي، لتجاوز رؤية الجيش لملفّ دمج «الدعم السريع».

الاستجابة السودانية
توزّعت استجابات القوى السودانية للأزمة الناشئة على مسارات ثلاثة رئيسة: أوّلها، يشمل القوى الداعمة بشكل مطلق للجيش، والتي لا تقتصر على تيّار الإسلام السياسي بمختلف مكوّناته، بل تمتدّ إلى تمثيلات قبَلية مهمّة في قلب أقاليم دارفور نفسها وفي شرق السودان بشكل خاص، فضلاً عن العديد من جماعات المعارضة المسلّحة السابقة، والتي تدفع بقوّة في اتّجاه توحيد الجيش السوداني وفق مقرّرات «اتفاق جوبا للسلام». ويتمثّل المسار الثاني في القوى السياسية «المحايدة»، والرافضة بالأساس لتوجّهات كلّ من البرهان و«حميدتي» وأطراف «الاتفاق الإطاري»، وهي في مجملها قوى تتبنّى خيارات وطنية شاملة، لكنها تفتقر بشكل متزايد إلى قواعد شعبية في ظلّ الاستقطابات الراهنة. وعلى رأس هؤلاء، يأتي «الحزب الشيوعي السوداني» الذي طالب، في بيانه تعليقاً على التطوّرات الأخيرة، بتفكيك ميليشيات «الدعم السريع»، والمضيّ قُدُماً في عملية تكوين جيش سوداني موحّد واحترافي، وهو موقف لم تشذّ عنه مواقف ما تُعرف بـ«الكتلة الديموقراطية». أمّا المسار الثالث فكان الأقلّ حضوراً للمفارقة، وهو تيّار «قوى الحرية والتغيير - المجلس المركزي»، الذي صوّر الصراع الدائر برمّته على أنه محاولة من قِبَل «فلول نظام البشير» والقوى الإسلامية الراديكالية لـ«اختطاف الديموقراطية والمرحلة الانتقالية».
أكثر ما تخشاه مصر إمكانية أن تستثمر إثيوبيا الوضع من أجل تعزيز موقفها في أزمة سدّ النهضة


الأزمة وخلط الأوراق الإقليمية والدولية
في عودة مبكرة للقاهرة، التي رسّخت منذ العام 2021 تعاوناً عسكرياً مهمّاً ومؤثّراً مع الجيش السوداني، ونشرت قوّات لها في مطار مروي الذي اندلعت قربه الأحداث الراهنة، استضافت العاصمة المصرية محادثات مهمّة مع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بخصوص الأزمة السودانية (16 نيسان). وتَرافق ذلك مع بدء الحديث عن جهد مصري - سعودي مشترك لتقديم مبادرة، تُضاف إلى أخرى مصرية - جنوب سودانية، وتنسيق مصري مع جيبوتي، وكذلك اهتمام مسؤولي الاتحاد الأوروبي بالتواصل مع مصر. وفي الاتّجاه «التهدوي» نفسه، جاء البيان الصادر عن اجتماع «المجلس الأعلى للقوات المسلّحة المصرية» (17 الجاري) ليخالف توقّعات البعض بوجود تصعيد ما، ويؤشّر إلى أن القاهرة لا تمتلك في الواقع الكثير من الخيارات. لكن في المقابل، فإن الاجتماع الهاتفي الثلاثي الذي عُقد بين وزراء خارجية الإمارات والسعودية والولايات المتحدة، لم يسفر عن بلورة «مبادرة» كانت متوقّعة في ضوء اشتراك الدول الثلاث في «الرباعية الدولية». كما أن إشارة بيانات الجيش إلى وجود دعم خارجي لـ«الدعم السريع» (16 نيسان)، والتخوّف من وصول إمدادات عسكرية إلى تلك القوّات في الساعات الأخيرة (في إشارة إلى الإمارات وجارتَي السودان: إثيوبيا وإريتريا)، يشير إلى عدم اعتداد الجيش بأيّ وساطة قد تسعى لها الإمارات، حتى ولو من بوابة مصر.

ماذا بعد؟
يبدو من الوضع الراهن، والجنوح اللحظي إلى تفعيل التهدئة التي بادرت بها قوات «الدعم السريع» صباح أمس «لمدّة 24 ساعة»، عقب محادثات هاتفية منفصلة بين وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، وطرفَي الصراع، أن ثمّة فرصاً لتهدئة مشروطة. لكن بيانات الجيش تشير إلى مخاوف من حشد «الدعم السريع» «قوّة كبيرة في مروي لتأمين هبوط طائرة مساعدات عسكرية من جهات إقليمية»، واستنفار دقلو جنوده «للحضور إلى الخرطوم من نيالا والفاشر والجنينة والطينة»، ما يحيل إلى إمكان استمرار الصراع من دون حسم في تدخّل «جهات إقليمية». ومع أن الجيش، الذي أعلن أنه «يحارب من أجل سيادة السودان وضدّ ميليشيا تحاول الاستيلاء على السلطة بقوّة ذخيرتها»، أعلن أنه «منفتح على السلام والتفاوض السلمي في جميع مراحل هذه الأوقات العصيبة لشعبنا»، لكن تظلّ الأمور مفتوحة على الخيارات كافة.

خلاصة
تسارعت الأحداث في السودان منذ 15 نيسان الجاري، وسط تضارب بيانات الأطراف المتصارعة حول خريطة السيطرة، ومبادرة تشاد إلى غلق حدودها، في خطوة لم تُقدم على نظيرتها إثيوبيا وإريتريا. وفيما تتقدّم احتمالات الانزلاق إلى صراع شامل وطويل الأمد أقرب إلى سيناريوات الحرب الأهلية، وخصوصاً في حال دخول أطراف خارجية بثقلها العسكري - لا السياسي أو الإعلامي أو اللوجستي فقط -، فإن الوساطات الدولية والإقليمية المعلَنة لا تزال مغمغَمة وغير واضحة المعالم، وإن كان الأكيد أنها في حال نجاحها، ستُدخل السودان في دوّامة انتقال جديدة من دوّاماته الممتدّة منذ منتصف العام 2019، لا يعلَم متى وكيف ستنفجر مجدّداً.