منذ بداية الطوفان، وتحديداً عندما بدأنا نرى أسماء نألفها ووجوهاً نعرفها ضمن قوائم شهداء الإبادة في غزة، سبّب سؤال الانفصال بين أبناء جيلنا في الضفة الغربية ورفاقهم في غزة أرقاً لليان كايد. فهي، كما نعرفها، تمتلك عقلاً تحليلياً لا ينطفئ، وعاطفةً جيّاشةً لا نستطيع إيجادها عند معظمنا، وعندما أدرج اسما عبد الرحمن طناني وأحمد بدير في قوائم الشهداء، أخذت ليان بطرح أسئلة لم تستطع حتى اليوم أن تجد أجوبة لها. أذهلتها نظرة أحمد وعبد، ورفاقهما، للأسرى والأسيرات، وحاولت فهم ما يكمن خلف صورة «البطولة» التي وجدتها في كتابتهم عنها ورفيقات أسرها في السابق. في نص غير منشور كتبَته سابقاً، حاولت ليان طرح أسئلتها باحثة عن جواب مرضٍ، وكان أكثر ما يشغلها قلّة اتصالنا بمن يهتم بنا في غزة، وخوفنا من أن يعتبر تواصلنا معهم «تهمة» جديدة تزجّ بنا في السجون. فكّرت كثيراً في الصدع القائم بيننا، وإن كان من الجدير بنا أن نبحث فيهم، وأن نطرح الأسئلة عليهم، ولم تقوَ حتى الآن على فهم معنى كوننا «شعب تحت الإبادة»، يستشهد على إثره بعضنا، ويشاهد الآخر الإبادة ولا يقوى على وقفها، أو «يريح ضميره بوجوده في السجن»، فهي متشبّثة حتى النهاية بالوجود في الشوارع والعمل الحقيقي دعماً لمقاومتنا وسعياً لوقف الحرب. في محاولاتها للبحث عن أجوبة لأسئلتها التي لا تنتهي، بدأت ليان صياغة النص التالي، وحاولت إنشاء محادثة بين الشهداء والأبطال حول الأسرى، بكلماتهم، وبوجهة نظرهم، من دون أن تدخل فيها رأيها، علّها تجد الإجابة في ما قالوا هم. وحرصاً منّا على إكمال نص ليان، نشملها في حوار الأبطال أدناه. في ما يلي نص بدأَت بكتابته الباحثة وطالبة الماجستير في جامعة بيرزيت، والأسيرة في السجون الصهيونية حالياً، ليان كايد، قبل اعتقالها ببضعة أيّام، بتصرّف من أصدقائها:
من الممكن أن كل ما أقوله معيب، وخارج السياق، ولا داعي له الآن، أو ربما لا داعي له في المطلق. لكن سابقاً، أعني قبل عامين من اليوم، كنا نحن الأسيرات المحررات للتوّ، نشعر بغرابة من اهتمام الرفاق في غزة بنا! لماذا ينشر عبد الرحمن طناني صورنا وقصصنا؟ من نحن ليجري أحمد المقابلات معنا؟
لم نكن نودّ أن نبدو بطلات، ولا نريد أن نغشّ أحدهم بأننا كذلك، صحيح أننا كنا نبتسم بخفية ونحن نراهم يحملون صورنا أمام مقر «الصليب الأحمر» في غزة، في تلك اللقطات السريعة التي تظهر على شاشة تلفزيون فلسطين يوم الثلاثاء، وصحيح أننا كنا نأخذ «سكرين شوت» لكل صورة جماعية يقومون بنشرها، ونتنمّر عليها بيننا. فهكذا نحن لئيمات قليلاً، وطفلات ساذجات كثيراً، يواجهن عذاباً أكبر منهن، فلا يعرفن إلا استخدام الخلطة السحرية لشعبنا، أي «المسخرة على الذات قبل الآخر، وعلى الصديق قبل العدو».
في تلك الأثناء، بينما نحن نقابل جدّية العالم بلا جديتنا، ينسج أحدهم أجمل المقالات عنا، بينما ينسج الآخر صداقات مع الأخت والأخ والأم والأب، في تلك الأثناء بينما نحن نستثقل أن نجري مقابلة، نجد أنفسنا نسهب في الكلام معهم، ونخرج عن أسئلة المقابلة لنشرح الحال هنا وهناك، نردّد الجمل المعتادة بأمل اللقاء في القدس، شيء ما يبدو كصدى لهذه الجمل الكلاشيه، صدى يجلس في قاع القلب ثقيلاً ولا ينتشر، ويخيفنا، هل حقاً سنلتقي - وما هو العالم الذي سنقدر فيه على اللقاء؟ شيء آخر سيتناوله الضابط الصغير في رأسك ويحوّله إلى خوف أننا نجري مقابلة مع غزة - «تهمة جاهزة».
كان شهداؤنا في غزة أصحاب قضية، وكانت قضية الأسرى بالنسبة إليهم قضية مركزية، كان هناك طالب جامعي اسمه عبد الرحمن طناني. مع الهجمة الصهيونية على جامعات الضفة الغربية عام 2019، أسس عبد الرحمن من غزة صفحة بعنوان «تقدمي»، لنشر قصص الأسرى وحكاياتهم، وكان يقول دائماً: «قديش خلف كل اعتقال قصص كثيرة... قديش محزن إنو نتناقل أي خبر اعتقال أسير بشكل سطحي وعادي».
في 18 أكتوبر 2023، استشهد عبد الرحمن في غارة صهيونية، وكان آخر ما نشره على حسابه: «إذا متنا ضلّكم تذكّرونا، لا تخلّونا أرقام». وفي 10 يناير 2024، استشهد الصحافي أحمد بدير، محرر في مجلة «الهدف»، والذي يصف «بوستر» المجلة كيف استشهد: «في عدوان غادر لطيران الاحتلال الحربي».
لا أعرف كيف خطرت لي هذه الفكرة، ولم تعد تنفكّ عن ذهني، باستشهاد عبد وأحمد، وأصدقاء آخرين، لن يكون هناك أحد من غزة يعرفنا كـ«مناضلين»


أنا أعرف أن عبد وأحمد استشهدا في عدوان غادر لطيران الاحتلال الحربي، لكن أحمد كان يعرف عني تفاصيل أسري، وبماذا أفكر، وماذا تعلمت، وكيف كان روتيني اليومي! أعود إلى المقابلة التي أجراها أحمد معي، أبحث عن المكتوب بالخط العريض، لماذا يسألني ولا يتحدث؟ كيف سأعرفه فقط من خلال الأسئلة، أقرأ النص فقط من خلال الأسئلة، أعود لقراءة الأسئلة، فأتذكّر بأن من المؤكد أنه كتب المقدمة والخاتمة كذلك، أعود فأقرأ المقدمة، ومن ثم الأسئلة مجدداً، لكن لا يوجد خاتمة.
لا أعرف كيف خطرت لي هذه الفكرة، ولم تعد تنفك عن ذهني، باستشهاد عبد وأحمد، وأصدقاء آخرين، لن يكون هناك أحد من غزة يعرفنا كـ«مناضلين». نعم لم نكن نودّ أن نكون بطلات، لكن في حرب الإبادة التي نعيشها هنا في رام الله كمتفرجين، كان يواسينا أن يعرفنا أحدهم هناك في غزة مناضلين. لا أحد سيصدق أننا لم نكن مجرد مشاهدين، آخر من كان يؤمن أننا لسنا كذلك، شاهدنا اغتياله!
قال الشهيد عبد الرحمن طناني عن الأسير الشهيد كمال أبو وعر: «في هامش صغير في إحدى زوايا الصفحة قد لا ينتبه له أحد مع ضجة المانشيت والتعازي التي تفيض بها الصفحة؛ يُكتب خبر استشهاد أسير. أهذا هوَ الوفاء للتضحيات؟ أهذه قيمة المناضلين الشُرفاء؟».
عبد الرحمن كان معجباً ومتأثراً بشدة بالطالب الجامعي ابن بيرزيت يزن مغامس، الذي اعتقل عام 2019، ومورس بحقه تعذيب قاس جداً، فضرب وشبح، والآن يقبع في سجن ريمون الصحراوي، بانتظار الحكم عليه بالسجن المؤبد - مدى الحياة.
كتب الشهيد عبد الرحمن طناني هذا المنشور عن يزن بتاريخ 21 حزيران 2021: «يزن مغامس، أخي الذي لم تلدهُ أمي، بطلي، بطلي الذي علّمني معنى الفداء والتضحية، معنى أن تهب روحك وعمرك لأجل الوطن، بطلي الذي علّمني المعنى الحقيقي للحب الوحشي للوطن بكل ما أوتيت من قوة، بطلي الذي علّمني ما معنى أن تترك الدنيا بما فيها وتنطلق نسراً أحمر مُحلّقاً في سماء فلسطين، قدوتي، قدوتي الذي علّمني أن لا معنى للحُرية والحياة تحت احتلال، قدوتي الذي علّمني أن ضربة الجلاد لا تزيد الفدائي الحقيقي إلا قوة وصلابة، قدوتي الذي طبّق بفعله الأنشودة التي نرددها دوماً "اطلب شباب يا وطن وتمنّ"، قدوتي الذي علّمني بأن العناد في وجه مُحتلك أقوى معاني المقاومة، قدوتي الذي خرج من تحت التعذيب المميت مُبتسماً رافعاً رأسه فخوراً بنفسه وبما فعل يرفع إشارة النصر عالياً، أخي يزن، لن ترى منشوري هذا، ولكنني على يقين بأن حريتك حتمية وقريبة، وسيأتي اليوم الذي نُصلّي فيه في الأقصى، ونسهر فيه بين جبال رام الله، ونبيت بعدها على بحر غزة، سيأتي اليوم الذي سوف نتجول به في شوارع بيرزيت، ونرى صورك والعبارات التي خُطّت على جدرانها تمجيداً بك وبِبطولتك، سيأتي اليوم الذي أخبرك فيه ماذا تعني لي، سلامٌ عليكَ رفيقي خلف القُضبان والجدران الواهنة، لو تدري كم نحبك ونؤمن بك» - من على بحر غزة إلى سجن نفحة الصحراوي.
وفي تلك الهجمة نفسها وهجمات مشابهة، تساءل الشهيد أحمد بدير قائلاً: «الهجمة الأخيرة على الأسرى - بالتأكيد لن تكون الأخيرة - تضعنا أمام سؤالٍ نسأله عند كل هجمةٍ مسعورة وموتورة من قِبل الاحتلال على أبناء شعبنا، كيف يمكن إيقاف أو الحدّ من هذه الهجمة، ما هو المطلوب الآن لإسناد شموعنا التي لا تنطفئ؟».
وجاء ردٌّ من ستة أسرى قرروا تنفّس الحرّية، حتى لو لساعات. وقال الأسير أيهم كممجي، منتصراً بالرغم من العودة إلى الاعتقال: «النصر قادم رغم أنف الاحتلال، ووعد المقاومة لنا سيكون قريباً وسنقهر العدو فوق الأرض كما قهرناهم من تحت الأرض». واستجاب أبو عبيدة متغنياً بأسرى نفق الحرية قائلاً: «إذا كان أبطال نفق الحرية حرروا أنفسهم هذه المرة من تحت الأرض، فإننا نعدهم ونعد أسرانا الأحرار بأنهم سيتحررون قريباً بإذن الله من فوق الأرض».
وجاء «الطوفان» بخطاب تاريخي لمحمد الضيف يقول:
«وقد سبق وحذّرنا قادة الاحتلال من استمرار جرائمهم، وأَهَبْنا بقادة العالم التحرك لوضع حدّ لجرائم الاحتلال بحقّ مقدساتنا وشعبنا وأسرانا وأرضنا (…) فلم يستجب قادة الاحتلال، ولم يتحرك قادة العالم، بل ازدادت جرائم الاحتلال وتجاوزت كل الحدود، (...) وفي الوقت نفسه، لا تزال سلطات الاحتلال تحتجز الآلاف من أسرانا الأبطال، وتمارس ضدهم أبشع أساليب القهر والتعذيب والإذلال. المئات من أسرانا قضوا في غياهب السجون عشرين سنة ويزيد، والعشرات من أسرانا وأسيراتنا أكل السرطان والمرض أجسادهم، وقضى الكثيرون نحبهم نتيجة الإهمال الطبي والقتل البطيء المتعمّد. ولقد قوبلت دعواتنا بعقد صفقة تبادل إنسانية بالرفض والتعنّت».
«وبالعودة إلى نايا ونتالي، فإنّهما الآن بكل تأكيد تحنّان إلى خبز أمهما، وضحكة والدهما، وحضنٍ مشتركٍ يُدفئ المكان ويُذكّرنا جميعاً ببشاعة هذا الاحتلال المستمر في سرقة الفرح من شفاه أطفالنا منذ 74 عاماً» - هذا ما قاله الشهيد أحمد بدير في مقال كتبه عن طفلتي الأسيرة لينا أبو غلمة في «بوابة الهدف»، وهو ما جاء «الطوفان» من أجله، لإنهاء الحزن وزرع الأمل بالحرية القادمة لا محال.
وفعلاً تحققت صفقة تبادل منقوصة إثر «الطوفان»، أعطت فرحة ممزوجة بالقهر والألم: «سامحونا، سامحونا يا الله، سامحونا أنه طلعوا ولادنا ع شهدائهم»، قالت والدة الأسير المحرر عمر العطشان.
وعلى الرغم من فجاعة المشاهد وبطش الاحتلال وظلم السجان وقساوة الواقع، يذكّرنا الأسير الشهيد وليد دقة برحيله المؤلم: «أعترف بأني ما زلت إنساناً ممسكاً على حبه، قابضاً عليه كما لو كان الجمر، وسأبقى صامداً بهذا الحب، سأبقى أحبّكم، فالحب هو نصري المتواضع والوحيد على سجاني»...

... في انتظار حرّية ليان لاستكمال المقالة ومتابعة طرح الأسئلة والبحث عن أجوبة