في جانب من مبرّرات برودة الحماسة الظاهرة حيال زيارة البابا بنيديكتوس السادس عشر، أنها ليست للبنان على غرار تلك التي قام بها البابا يوحنا بولس الثاني في أيار 1997 وأودع اللبنانيين، والموارنة خصوصاً، الإرشاد الرسولي الخاص بلبنان. يأتي خلفه لتسليم بطاركة الكنائس الكاثوليكية في ست دول عربية، هي مصر والعراق وسوريا والأردن وفلسطين ولبنان، إرشاداً رسولياً خاصاً بمسيحيي الشرق الأوسط. وإلى أن ترتفع حرارة الحماسة هذه، فإن زيارة البابا هي الحدث لدوافع شتى، قد يكون أهمها القلق على مصير مسيحيي الشرق وصعود التيّارات السلفية والمتشدّدة في المنطقة.
منذ نيسان 2011، سعى المسؤولون اللبنانيون المعنيون إلى استضافة البابا في لبنان، بعدما توافرت حجج مقنعة، بصرف النظر عن تسليم الإرشاد الرسولي في مصر، المكان الأول الذي خَطَرَ في بال البابا ودوائر الكرسي الرسولي، وأبدى المسؤولون المصريون في العهد السابق استعداداً حاراً لاستقبال الحبر الأعظم. بعد تزايد العنف والاضطراب السياسي في مصر، وانفجار الأزمة السورية، ودوّامة العراق في مستنقع التفجيرات، أضحى لبنان ملاذاً أخيراً. أسقط الأردن وفلسطين بعدما كان البابا زارهما في أيار 2009. بعض الأسباب التي تبلّغها المسؤولون اللبنانيون من الدوائر المختصة في الفاتيكان عن تعزيز حظوظ لبنان في زيارته، وجود رئيس مسيحي على رأسه، أضف الدور الفاعل للمسيحيين اللبنانيين في بلادهم وفي الشرق كنقطة جذب، وتعاونهم مع شركائهم المسلمين. في حزيران 2011 استقرّ الاختيار على لبنان في زيارة من شقّين: الاتصال بالدولة اللبنانية وبالكنائس الكاثوليكية. وجّه رئيس الجمهورية ميشال سليمان دعوة خطّية إلى البابا لزيارة رسمية بعدما كان وجّه إليه دعوتين شفويتين عندما زار الفاتيكان عامي 2008 و2011. كذلك وجّه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى البابا دعوة رسمية مماثلة لدى استقباله إياه في تشرين الثاني 2011.
سبق تحديد موعد الزيارة بين 14 أيلول و16 منه مناقشة مستفيضة في دوائر الفاتيكان، ومع المسؤولين اللبنانيين، للوضع الأمني في لبنان، انتهت إلى اعتقاد بأن بعض الحوادث الأمنية في أطراف البلاد لا تحول دون زيارة آمنة للحبر الأعظم. تبلّغ المسؤولون اللبنانيون أيضاً من الدوائر المختصة في الفاتيكان يقينه بأن المسلمين اللبنانيين سيرحبون بالبابا بنيديكتوس السادس عشر، وسيكونون على رأس مستقبليه بحماسة استقبال المسيحيين له.
ورغم أنها ليست سياسية، ولا يصحّ تجييرها في أي منحى، وتقتصر اللقاءات الرسمية على اليوم الثاني في قصر بعبدا، يحمل الحبر الأعظم رسائل سبق أن تبلّغها المسؤولون اللبنانيون من الدوائر المختصة في الفاتيكان:
1 ـــ ينظر الكرسي الرسولي بقلق إلى مصير مسيحيي الشرق، انطلاقاً من نظرة شاملة تقارب الكل وليس الجزء. يفكر في المسيحيين، ويفكر أيضاً في المجتمع الذي يشكّلون جزءاً منه، ويرى أنه كفيل حماية الأقلية المسيحية. لا يستطيع المسيحيون حماية أنفسهم بأنفسهم. وهو مغزى ما سيتضمّنه الإرشاد الرسولي الخاص بمسيحيي الشرق، بدعوتهم إلى الانفتاح على المجتمعات الأخرى التي يقاسمونها الحياة المشتركة.
2 ـــ يرى مسؤولو الدوائر المختصة في الفاتيكان أن توقيع البابا الإرشاد الرسولي يمثّل هدفاً جوهرياً في تأكيد إصراره على تشبّث المسيحيين بأرضهم، وخصوصاً بعد أحداث العراق التي أدّت إلى مغادرة قسم كبير من مسيحييه، والتهديدات التي واجهها أقباط مصر، ثم ما قد يواجهه مسيحيو سوريا من أخطار مشابهة. وهو بذلك يدعو المسيحيين إلى ممارسة دورهم الفاعل في المجتمع، لا التنحّي جانباً والتفرّج. أن لا يكونوا طرفاً في نزاع فريق مع آخر، ويحرصوا على البقاء صلة الوصل مع كل الطوائف والمجموعات الإنسانية الأخرى.
3 ـــ موقف الفاتيكان واحد في سوريا ولبنان، انسجاماً مع حرصه على حماية المجتمع ككل المجموعات الصغيرة التي يتشكّل منها. ينبذ البابا الديكتاتورية ويرفضها، ويؤيد قيم الحرية والديموقراطية والعدالة وحقوق الإنسان والحوار. يرفض أيضاً العنف والقتل، ولا يوافق على أي تغيير بالقوة، مقدار شجبه الديكتاتورية. يراقب ما يجري في سوريا باهتمام، ويجري اتصالات مع الدول العظمى والنافذة، ومع الكنائس الأخرى ذات التأثير في هذا البلد، كالكنيسة الأرثوذكسية.
4 ـــ يلاحظ هؤلاء المسؤولون أن لأحداث سوريا تأثيراً على لبنان، وينبهون إلى ضرورة عدم الانزلاق إلى ما يتسبب بهذا التأثير. يفضّلون عدم تورط لبنان سلباً أو إيجاباً كي لا ينعكس عليه ما يجري في سوريا. يحرصون على الدعوة الى التمسّك بالقيم السياسية والاجتماعية وأخصّها حقوق الإنسان، ودعم النازحين السوريين ومساعدتهم في الشقّ الإنساني.
5 ـــ يلتقي الفاتيكان مع الاتحاد الأوروبي على تقدير سياسة النأي بالنفس التي ينتهجها لبنان، ووجدوا فيها دافعاً لتجنيبه تداعيات أحداث سوريا، قد لا يكون في وسعه تحمّلها. يصف مسؤولو الدوائر البابوية سياسة رئيس الجمهورية بأنها حكيمة، وقادرة على حماية لبنان بإبعاده عن أزمات هو في غنى عنها.
6 ـــ يرون هجرة المسيحيين من لبنان أساسية وخطيرة مع تناقص أعدادهم. يحضّون على تشبّث المسيحيين بأرضهم. يطلعون دورياً، وبانتظام، من البطريركية المارونية على واقعي الهجرة وبيع الأراضي.
7 ـــ يتابع الفاتيكان الشقّ السياسي من لبنان بانتباه. لا يرى الخلافات المسيحية ـــ المسيحية انقساماً، بل تنوّعاً. يحبّذ أن لا يكون هناك انقسام. لا يتطرّق مسؤولو الكرسي الرسولي إلى هذا الجانب مباشرة، بل بإيحاء يسمعه زوّاره اللبنانيون الرسميون أو المتصلون به بحكم صداقات مزمنة. في المقابل يُقلق الفاتيكان التطرّف من أي جهة أتى، ويخشاه، بما في ذلك ـــ وخصوصاً ـــ التطرّف المسيحي. يميّز بين التنوّع في الرأي والتطرّف. يُريحه جلوس المسيحيين بعضهم مع بعض إلى الطاولة والتحاور والتفاهم وحلّ مشاكلهم، وهو عنصر غنى في الديموقراطية. إلا أنه يرفض احتكار التمثيل السياسي وأحادية الرأي كي لا يتحوّلا ديكتاتورية يعارضها. في سبيل ذلك يحضّ البابا مسيحيي لبنان والشرق على الانفتاح.