بلا مخ

كم نحن مضحكون. أنظروا إلينا على الشاشات. ما أحلانا. أنظروا إلينا كيف نتأّفّف من التحركات الاحتجاجية، طالما أنها لا تشبه «ماراتون بيروت» الحكومي، كيف نشير إليها كمَن يشم رائحةً كريهة، فيحبس أنفاسه إلى أن يتجاوز المكان. أنظروا كيف نندّد باستعلاء بحرق الإطارات وقطع الطرقات، كأننا شعب اسكندينافي «مهذّب»، مرتّب، لم يذبح بحياته على الهوية، لم يخطف، لم يقتل. شعبٌ حسّاس، تجرحه تظاهرة، وتخدش حياءه «مسبّة» طائفية، ويخنق دخان الدواليب رئتيه المتخمتين أصلاً بهواء الأراكيل.أنظروا إلينا، طبقيّين، عنصريّين، مذهبيّين، وفوق كل هذا جَهَلة شأن عام.. لا يجمعنا شيء حتى المصالح المشتركة التي تُبنى بها الأوطان. لا شيء: لا لغة ولا تاريخ ولا جغرافيا، لا تربية مدنية، ولو بواسطة «التربية» البدنية، لا وطن ولا هوية ولا قضية، يصرخ الواحد منّا حين يحترق بنار الظلم والجوع، فلا ينتزع صراخه من الباقين شيئاً إلا التأفّف.. تماماً كبقرات النائب القديم «ما غيرو» عبد الله الحاج: الواحدة تصرخ حين توشم بالنار، وإلى جانبها تماماً، تتابع الأخريات الاجترار.

هل يفقه المحتجّون على أساليب المحتجّين ما الذي يقولوه؟ وإذا شطبنا الأساليب الاحتجاجية «المكروهة» من عامّة اللبنانيين ماذا يتبقّى؟ ألم يستمر الاعتصام السلمي في وسط بيروت لعام ونصف ولا من مجيب؟ ألم تُطلق النار على المتظاهرين في حي السلّم؟ وفي جسر المطار؟ ألم تشوّه سمعة المياومين المضربين من أجل حقّ طال انتظاره بحجّة أنهم همج وأنهم يحملون السكاكين وأن على بعضهم «شُبهات أمنية»؟ حسناً لا اعتصام، لا تظاهرة، لا قطع طرقات ولا حرق دواليب ولا كتابة على الحيطان «يا عيب الشوم»، لا اعتصام تحت الخيم.. هل هي وحدها تلك التظاهرات التي يركّز فيها المصور على «ديكولتيه» المتظاهرات المحمولات على الأكتاف مقبولة؟ أو ربما الأفضل «التظاهر على الفايسبوك»؟ نضال هيّن، افتراضي، يؤدي حكماً إلى نتائج ..إفتراضية! وماذا يفعل هؤلاء الذين أُقفلت في وجوههم كل أبواب "حرية التعبير" وأشكاله قبل النزول إلى الشارع: لا نقابات، لا إعلام يواكبهم حتى نهاية نضالهم..لا ضمان، لا طبابة، لا تعليم، لا عمل، لا زواج، لا بيت، لا قضاء إلا للحاجة؟ لم يبق إلا «لا إله الا الله».. أو الاشتعال إطارات ووحدانا، بعيداً عن أيّ تضامن من بقية المواطنين.

ماذا فعلنا للموقوفين الإسلاميين لخمس سنوات طوال دون تهمة أو محاكمة؟ لا شيء. الاعتصام، على خلفية لحظة سياسية فتنوية مذهبية وقطع طريق طرابلس هو الذي «جاب نتيجة». «شو بعملّكن»؟ كيف نتضامن مع الأسرى الفلسطينيين في معركة الأمعاء الخاوية، بسبب الاعتقال الإداري في اسرائيل، وهو نفسه الذي يرزح تحته مواطنون لم يوجه إليهم اتهام أصلاً بسبب.. عدم توافر الأمكنة؟ اليس هذا ما يقال له :عذر أقبح من ذنب؟ حاكموهم في أي مكان: في المدينة الرياضية.. في البييل..ما بها البييل؟

هكذا وقعت «زلاغيط» نساء المطلق سراحهم من رومية في أذن الناس كجملة مفيدة: هذه الدولة لا تفهم إلا «بالصرماية». خاصة إذا أصابت «الصرماية» أثناء طيرانها «عجلة» الاقتصاد، وهو اقتصاد على عجلة من أمره لدرجة أنه لا ينتبه ولا يأبه إلى أنه يدور فوق أجساد الناس وآلامهم. فإذا كان الاقتصاد لا يفيد إلا ثلّة من اللبنانيين، كيف نلوم المهمشين على تعطيل "عجلة الاقتصاد"؟ ما مصلحتهم في إيقاف ذلك؟ ثم عن أيّ اقتصاد نتحدث؟ اقتصاد دولة «البلا مخ»؟ أي تلك التي يكون فيها القصف «شغّالاً» على جزء من أبنائها في حين أن «بقية البلد» يتزلج أو يسبح أو يسهر في المرابع الليلية؟ تعطي المراسلة الميكروفون لـ"الناس" الذين لا يتأخرون عن الشكوى لمصادفة التظاهرة طريقهم. «معقولة قاطعين الطريق؟ ولشو حرق الدواليب؟ رح نموت من الدخنة! نحنا شو ذنبنا؟ ليه يقطعوا طريق المطار؟ يروحوا يقطعوا طريق الزعما»، تقول إحدى السيدات بلهجة مَن وجد ما يُفحم «الخصم». كيف لا تضحي السيدة بمجرد «توديعها لابنتها» أمام ألم عائلات لا تعرف شيئاً عن أولادها المخطوفين في بلاد تعيش حرباً ضروساً؟ أليس غياب هذا التضامن بالضبط، بين المواطنين العاديين، هو ما يدفع هؤلاء أكثر إلى الشارع؟ هل هذا هو حرق للدواليب ام حرق للفسحة العامة المشتركة مع بقية اللبنانيين؟ تخيلوا لو أننا، لو ان الناس توافدوا فجأة للتضامن مع أهالي المخطوفين أو الإسلاميين الموقوفين ظلماً من دون محاكمة أو مع تظاهرة الأسرى المحررين ضد إطلاق سراح العملاء.. مَن سيحتاج عندها إلى قطع طريق أو حرق دولاب؟ ألن يكون الإحساس باليُتم الوطني الذي يشعل غضب هؤلاء الآن، أخفّ؟

مَن يقول لتلك السيدة إنّ الشارع إنْ لم يكن ساحة احتجاج فهو سيكون ساحة قتال؟ قبل الحرب، كان اللبنانيون يتغنّون بأن "الجت سكي" والتلفريك والكازينو ومهرجانات بعلبك وبيبلوس كلها «شغّالة» في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تقصف الجنوب يومياً. حوّل العباقرة نقيصة «انعدام التضامن الاجتماعي»، هذه البلادة المواطنية المرعبة إلى ..مأثرة وطنية. شيء مثل «قوة لبنان في ضعفه»، و«سنسولة» «يتميّز لبنان». وهو بالفعل «يتميّز». يتميّز بطبيعة تتجاور فيها المتناقضات : البحر والجبل، الدولة والقبائل، نادي الغولف والمعدمين، المطار وغرف نوم ابناء المناطق العشوائية. طبيعة تتيح لك الانتقال بأقل من ثانية، من الثلج إلى البيكيني، ومن البيكيني إلى اللحية، ومن اللحية إلى الغرين كارد، ومن الغرين كارد إلى كل مكان.

ثم ممّ يشكو حرق الدواليب؟ أليس أفضل من طبعة "غضب الأهالي" بالسلاح و"اشتباكهم" على الحدود مع جيش نظامي؟ أليس أفضل من «فشّ الخلق» المدفوع، بين باب التبانة وجبل محسن أو في المخيمات؟ ثم، إن حرق الدواليب هو كل ما تبقّى من «إشارات» يرسلها المواطنون إلى «إخوتهم» السياح المغرّر بهم من وزارة السياحة التي لا تنفكّ تدعوهم إلى ربوعنا برغم تحذير دولهم، في حين أنها لا تقدر على ضمان أمن أبنائها أو حتى ضمان أن هؤلاء الزوار لن يُخطفوا من أجل فدية (راجع الأستونيين على البيسكلات)، أو رأي (شبلي العيسمي) أو لن يموتوا من تسمّم غذائي أو سطو مسلح.. أصلاً لن يتمكنوا من النظر حيث تدبّ أرجلهم لشدّة العتمة، إلا إذا صادف مرورهم طريقاً مقطوعة بدواليب تحترق.. عندها سيتمكنون من مشاهدة «طبيعة لبنان» الخلابة وبالألوان.

أنتج غياب التضامن الاجتماعي مع أهل الجنوب أيام الاحتلال: المقاومة الإسلامية. لكن حتى «المقاومة»، هي شكل غير حضاري من أشكال الدفاع عن النفس لجزء كبير من اللبنانيين. خاصة أولئك الذين يتلخّص اقتصاد البلد بالنسبة إليهم بالسياحة. بالنسبة لهؤلاء، ووزير السياحة على ما يبدو منهم، لبنان هو مجرد مجموع الفنادق والمصارف والمقاهي والمسابح والمرابع الليلية بفتياتها وفتيانها. أما نحن؟ أما مصائبنا اليومية؟ أما الدولة المنهارة؟ فيمكنها أن تتابع حياتها او انهيارها بالأحرى ..«عادي».

أليس هذا ما قصده وزير السياحة حين أطلق حملته لتشجيع السياح على المجيء إلى لبنان تحت عنوان «ليه شو في بلبنان؟». صحيح؟ شو في بلبنان.. يا بلا مخ؟

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 6/28/2012 8:08:26 AM

امه عربيه واحده ذات مصائب خالده

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 6/27/2012 9:19:50 AM

شكراً ضحى على تذكير الناس بأن المطالب محقة وان اللبنانيين لا يملكون وسيلة غير اغلاق الطرقات وحرق الدواليب للاستماع الى مطالبهم المحقة ولكن لو يكتفي الناس باغلاق الطرقات وتشكيل جدار بشري لكان اكثر جدوى للانسان وللبيئة وخصوصاً واننا لا نستطيع ان ننظف الهواء او نستورده اذا صار الهواء ملوثاً بالديوكسين واول اكسيد الكربون. ان حرق الدواليب لا يتعلق بحضارة المحتجين او عدمها بل يتعلق بمدى وعيهم لحقهم في هواء نظيف وماء نظيف (اذا توفر) لكي يمكن لهم فيما بعد الاحتجاج على مطالبهم المحقة قبل ان يصابوا بسرطان الرئة بصفتهم المعرضون بصورة مباشرة للديوكسين الناتج عن حرق الدواليب والذي عادة ما يصل الى المسؤولين مخففاً ولا يصيبهم بالضرر المباشر. احب ان اضيف ان الكثير من المحتجين يذهبون ايضاً الى بيوتهم ويشرعون بتدخين الاراكيل وتلويث رئاتهم نظراً للبطالة المستشرية والتي عادةً ما تتخذ حجة للتخفيف من الشعور بالاسى من واقع الحال حتى كادت المقاهي الشعبية تغص بالرواد في وضح النهار والذين في غالبيتهم وللاسف عاطلون عن العمل بسبب سوء السياسات الحكومية المتتالية على السنين قبل وبعد الحرب. احتجوا سلمياً واقطعوا الطريق ولكن لا تحرقوا الدوالبيب رفقاً بأطفالنا. بسمة شباني حزب البيئة اللبناني

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 6/25/2012 6:42:46 PM

طالما الجميزه والحمرة وألاشرفيه والمعاملتين مليانين البلد بألف خير.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 6/24/2012 8:03:44 PM

مقالتك فيقتنا، متل الصفعة: تراااخ! فيقوا يا بلا مخ! هلقد صرنا بليدين؟ شكرا ضحى

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 6/23/2012 8:36:11 PM

في لبنان كل الكلام في الهواء لا تعليق او كشف الفضائح تغير الامور في شيئ احزاب دمرت الدولة وحرقت لبنان وقتلت ابناءه منذه 1975 الاسباب كانت المرض اللبنانية على السلطة كما نشكر الاجزاب الفلسطينية التي كان لها الجزء الاكبر في هذه المؤمراة على لبنان . معروف عندا الشعوب ان على الضيف ان يكون محترم اين يكون . الان تغيرت الوجوه والاحزاب تحكم لبنان بأسم الدولة

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 6/23/2012 11:22:38 AM

كالعادة ست ضحى، كلماتك عالجرح بعفوية وفنية عالية وإيجاز (مش مطلوب).. أقرأ مقالك -بل أعيشه- بلهفة وانفعال، حتى أخاف أن أضغط زر "أسفل" على الحاسب فأصل إلى نهاية المقال... أدعوك سيدتي إلى زيارة نهر البارد ورصد آلام المقهورين هناك وإن لم يكونوا من أبناء الوطن، فهم حُكماً جزء من "النسيج الاجتماعي" في لبنان. زوريه سيدتي وسترين لهفة الناس إلى أن يرووا لك ما حصل هناك من زاويتهم واحكمي بعدها إن كان هناك "مخطط إقليمي" أو "تحريض من طابور خامس أو سادس أو سابع"... سيدتي، لطالما تابعناك وأنت تنقلين نبض الشارع، آلامه وآماله، شعرنا أننا في الشارع مع الطبقة الأكثر تهميشاً والأخفت صوتاً، تابعناك وأنت تزورين غزة وتكسرين حصارها، ومع كل تعاطفنا مع إخواننا في غزة- ألا تستحق معاناتنا منك زيارة.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 6/26/2012 4:31:51 PM

البارد والمخيمات في القلب. ليتك تابعتنا في ذكرى البارد حين ذهبنا الى هناك وكتبنا مع الزميلة جنى نخال والزميل روبير عبدالله والزميل عبد الكافي الصمد..لكن ربما لم تكن زيارة واحدة كافية. قد تكون الامور اسهل حين ترفع حالة الطواريء كما وعدنا في تموز المقبل..لكن لم اعرف من الداعي؟ ربما سالنا عنك او عنكِ في زيارتنا المقبلة. مودتي الدائمة ضحى

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 6/23/2012 10:16:15 AM

المقال فيه حساسية و التزام زياد الرحباني. قرأت لك و عنك الكثير ضحى. هذه المرة اثبتي ان بعض المثقفين هم ضمير الشعب

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 6/24/2012 4:23:53 AM

وينو زياد

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 6/24/2012 5:58:09 PM

وينو بيار ابو صعب ؟

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 6/23/2012 8:50:40 AM

شكراً سيدة ضحى، شكرًا لأنك تخرجين هكذا فكر بهكذا كلمات ... قمة الرقة والصواب إنه حتماً بلد مجنون، وما يزيد في جنونه، اعتقاده أنه أعقل العقلاء!! اسبرانس دبس

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 6/22/2012 11:17:13 PM

جرّبت أن أختار من مقالك الأميز، فوجدتُ الأميز هو الغالبيّة! فعلا: إن لم تكن الشوارع ساحات للاحتجاج (في أيّ أرض عربيّة) فهي ستكون ساحات للاقتتال. ولأنّ الحكومات لا تنتبه إلّا على وقع (الصرامي) يبدو أنّ أسعار الصرامي إلى ارتفاع! ولا قضاء إلّا.. للحاجة!! أفلا يستدعي القول ابتسامة عريضة بحجم "اليتم الوطنيّ" - كما سمّيتِه- الممتدّ عربيّا؟! شكرا ضحى. هيفاء

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم