اجتاح الزجاج القاتم قصر الرئاسة اللبنانية أمس. لم تكن سيارات الرئيس سعد الحريري ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بين المواكب. الحريري «مُبعد» طوعاً خارج البلاد، ويفصل جعجع عن الحوار أبعد من المسافة بين بعبدا ومعراب. وزير المال محمد الصفدي لم يحضر بداعي المرض، والراحل غسان تويني حضر الحوار بدقيقة صمت وقفها المجتمعون عن روحه. كان القصر كخليّة نحل. جنودٌ منظّمون، إعلاميون ينبضون أخباراً وهواتف، وعدسات تلاحق الآتين إلى طاولة شبه مستديرة، داخل القاعة الرخّامية.

إذا كانت القاعدة أن من يأتي أولاً يكون الأكثر حماسة، فإنّ النائب وليد جنبلاط بحضوره المبكر إلى القاعة الرئيسة، يبدو الأكثر نشاطاً وحرصاً على انعقاد الحوار. اكتمل النصاب المتوقّع في تمام الحادية عشرة صباحاً. دخل الأقطاب فرادى. وحده دولة الرئيس فريد مكاري «قطّر بالقطّارة» للصحافيين خبر عدم تفاؤله من الجلسة. الرئيس نبيه برّي رفع يمينه للتحيّة عن بعد. ومع دخول رئيس تكتل التغيير والاصلاح النائب ميشال عون، أُغلق الباب الخشبي العملاق على مصير لبنان.
لم يوفّر رئيس الجمهورية ميشال سليمان تطوّراً لم يذكره منذ جلسة الحوار الأخيرة قبل عامين. مرّ رئيس البلاد بـ«بانوراما» شاملة على تطوّرات الأحداث الدولية والاقليمية والمحليّة، من تصفية بن لادن، إلى الانسحاب الأميركي من العراق، إلى عودة الحرب الباردة، مروراً بالربيع العربي والأزمة السورية، وليس انتهاءً بزيارة البابا بنديكتوس الرابع عشر إلى لبنان في أيلول المقبل. مرّ سليمان على توقف الحوار بعد بيت الدين، حينها حمل الفريقان لواءي شهود الزور والاستراتيجية الدفاعية. ومرّ على السلاح الفلسطيني أيضاً، وطبعاً لم ينس الدعوة التي وجهها الامين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله لعقد مؤتمر تأسيسي جامع وتطوير اتفاق الطائف. رمى الرئيس على طاولة بعبدا كلّ ما يختلف المجتمعون عليه، وختم كلمته بـ«والله وليّ التوفيق».
جازماً كان رئيس الحكومة في كلمته بـ«أننا لا نزال نرى في اتفاق الطائف الأساس الحقيقي لبناء الدولة القادرة»، كما الحرص على درء لبنان «شظايا الأزمة السورية». أعلن ميقاتي التزام حكومته «ترجمة كل ما يُتّفق عليه على طاولة الحوار».
بدوره، عرض جنبلاط في كلمته حقبة تاريخيّة طويلة، ذكّر بـ«هيئة الإنقاذ» التي تأسّست أيام الرئيس الياس سركيس، حرب الجبل، اتفاق الطائف، كما الدور السوري في لبنان. أكّد أنّه ليس نادماً على أي خطوة اتخذها على صعيد تأليف الحكومة التي رفض وصفها بالانقلابية: «أعتقد أننا تلافينا المفاعيل السلبية للقرار الظني، والمطلوب الآن البحث عن الاستقرار». أكثر من ذلك، جنبلاط الذي كان قبل أسبوعين أكثر المتحمّسين لدعم الثورة السورية، وإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، قال كلاماً يبدو جديداً في قاموسه: «لا يستطيع أي طرف مهما بلغت قدرته وقوّته على الساحة اللبنانية التأثير في مجرى الأحداث على الساحة السورية»، بالأمس قال جنبلاط «نَعَمَان»: نعم للنأي بالنفس، نعم للعناية بالنازحين.
ماذا في جعبة «الصوت الدرزي» الآخر على الطاولة؟ وضع النائب طلال أرسلان ثلاثة عناوين في مداخلته: رفض إقامة ممرات من لبنان إلى سوريا. التشديد على المبادرة التي أطلقها البطريرك الماروني بشارة الراعي «حول ميثاق جديد للبنان»، والتي «تتوافق مع الدعوة التي أطلقها السيد نصر الله بعقد مؤتمر تأسيسي جامع». القيام «بإصلاحات جديّة على صلب النظام اللبناني ومكامن الخلل فيه قبل الخوض في بحث أي استراتيجية دفاعيّة نريد».
لم يغرّد أرسلان وحيداً، رئيس تيّار المردة النائب سليمان فرنجية أكّد أهمية الحياد تجاه الأزمة السورية، واعتماد سياسة النأي بالنفس أيضاً. وأشار فرنجية إلى «هشاشة مؤسسات الدولة التي باتت إما ضعيفة أو منكفئة عن أداء عملها»، كذلك مرّ على دور الإعلام «الذي يؤجّج نيران الفتنة في البلد» وضرورة ضبطه.
لم يقف الرئيس فؤاد السنيورة والنائب جان أوغاسبيان مكتوفي الأيدي. شنّ الثنائي هجوماً على الحكومة وممارساتها وطريقة إدارتها للملفات الداخلية. السنيورة وجّه لوماً لحزب الله لأن كلاماً يصدر عن مسؤولين في الحزب «يتهمون فيه قوى الرابع عشر من آذار بتلاقي المصالح والتصريحات مع المصالح الإسرائيليّة عندما نناقش السلاح»، ويضيف السنيورة أن «هذا تخوين».
لوم السنيورة استدعى ردّاً من رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمّد رعد. نفى رعد أن يكون ما يقوله مسؤولو الحزب من باب التخوين، بل «حتى لا يذهب أحد بعيداً في الهجوم على سلاح المقاومة». وعرض رعد محطات عدّة من المرحلة الماضية، مشيراً إلى أن «البلد فيه حريق وجمرٌ، ونحن معنيون بإطفاء الجمر وإخماد هذا الحريق». ودان رعد خطابات التطاول على الجيش اللبناني والقضاء، في حين كان موقف رعد الأساسي هو «توفير الغطاء السياسي الكامل للجيش حتى يقوم بدوره في فرض هيبة الدولة وضبط الأمن على كلّ الأراضي اللبنانية». ودعا رعد «الفريق الآخر إلى إطلاق تصريحات توفّر هذا الغطاء». دعوة رعد ردّ عليها السنيورة، مؤكّداً «أننا دعمنا الجيش رغم الذي حصل في الشمال، وبعد مقتل الشيخ أحمد عبد الواحد».
تناغمت مداخلة رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي النائب أسعد حردان مع ما قاله رعد لجهة «دعم الجيش اللبناني حتى يصمد في وجه التحديات»، كما تقوية مؤسسات الدولة.
كان الاستقرار الأمني ودعم الجيش اللبناني هاجس عون أيضاً. ركّز على «دعم الجيش وضرورة فرض سلطة الدولة، فالجيش هو الضمانة الوحيدة للاستقرار».
الرئيس أمين الجميّل كان هادئاً، بحسب خصومه وحلفائه. أكّد ضرورة الالتزام بجدول أعمال الحوار الذي طرحه رئيس الجمهورية، وقال «إننا من أجل أن نحدد الاستراتيجية الدفاعية، علينا تحديد دور لبنان. فهل هو دور حيادي أم عسكري أم بلد مواجهة أم صمود وتصدّ؟ وإلا إذا كان دوره مختلفاً ومبنياً على ثقافة الحوار ومساحة لقاء بين الأديان والحضارات والأمن والهدوء والاستقرار، فلا بد وفقاً لذلك من طرح موضوع السلاح». ولفت الجميّل إلى أن «حزب الله لم يدل بأي جواب حول البند الأول المتعلق بسلاح الحزب». فردّ رعد بالقول «سنستمع في هذه الجلسة وسنحدد موقفنا لاحقاً».
واستكمل الجميّل عرضه، معتبراً أن الحوار ليس فقط من أجل احتواء أحداث الشمال، «لكن مسؤولية الحوار استكمال بحث المواضيع المطروحة وفي طليعتها الاستراتيجية الدفاعية والسلاح، ولا سيما وسط الأحداث في العالم العربي وفي وسوريا». وشدد على ضرورة تحييد لبنان نفسه عنها بشتى الوسائل، و«تبليغ ذلك الموقف إلى الامم المتحدة والجامعة العربية». وطلب الجميّل أن يكون «ثمة تدبير مرحلي من أجل وضع السلاح في إمرة الدولة اللبنانية في انتظار الاستراتيجية الدفاعية».
وأشار الجميّل إلى أنه «يجب ألا يقال إننا هنا لأننا نلبي دعوة رئيس الجمهورية للحوار فحسب، بل هناك طرف آخر يجب تلبية دعوته هو الشعب، ويجب الاهتمام بمطالب الناس وهمومهم وقلقهم»، «صدقيتنا على المحك كطبقة سياسية وليس صدقية 8 أو 14 آذار».
لم يوفّر الجميّل الحكومة «التي من حيث تدري أو لا تدري تسهم في زعزعة المؤسسات»، مستشهداً بكلامٍ للرئيس نبيه بري وميقاتي ووزراء اشتكوا من عدم معالجة الوضع الأمني. وحيّا الجميّل مواقف السياسيين الذين أعلنوا وجوب التزام الحياد، فما كان من فرنجية إلا أن تدخل، موضحاً أنه عندما تحدث أخيراً عن الحياد، «كنت أعني الحياد تجاه الأزمة السورية لا الحياد في ما يخصّ إسرائيل». كذلك أكد رئيس الجمهورية أنه «لا حياد في قضايا الأمة».
بعد ختام الجلستين، وزّعت رئاسة الجمهوريّة بياناً عدّدت فيه 17 بنداً تمّ الإجماع عليه تحت ما اتفق على تسميته «إعلان بعبدا»، أهمها التزام الحوار والتهدئة السياسية والأمنية والإعلامية، تثبيت دعائم الاستقرار، تعزيز مؤسسات الدولة، دعم الجيش اللبناني معنويّاً ومادياً، دعم القضاء، التمسك باتفاق الطائف، تحييد لبنان عن سياسة المحاور، عدم السماح بإقامة منطقة عازلة في لبنان وعدم استعمال لبنان مقراً أو ممراً لتهريب السلاح والمسلحين إلى سوريا والتزام القرارات الدولية بما في ذلك القرار 1701.
هذا أول الغيث، ظهر الاثنين 25 حزيران الجاري سيجتمع المتحاورون من جديد.