ما من ديك ليوقظها ولا عصافير في الأشجار. لم يعد في القرية أشجار أساساً، ولا حتى قنّ دجاج. تغيّرت القرى. ليس في ألوان الخضر التي في الدكان، أو في رائحة المناقيش ما يفتح الشهية. الساحة خالية، حتى من نصب للشهداء. مجرد جدران تملؤها النعوات. هو التمدن يقتضي إحلال سيارة سوداء بشعة محل سواعد الشباب في نقل المسنّين من أسرّتهم إلى القبور. يتزوجون في بيروت ويُدفنون في عكار. تتكرّس الصورة يوماً تلو آخر: لا يأتي من عكار غير النقّ ووجع الرأس. يتفرج الشباب على أهاليهم يفاوضون عمالاً سوريين لقطف العنب أو الزيتون.
لاحقاً يتأففون من ملء أهلهم المنزل برائحة العرق. من مظاهر التمدن أن تعمل «وايتر» في أحد مطاعم العاصمة خمسة أيام في الأسبوع، ثم تستهزئ في اليومين المتبقيين بكدّ أهلك لتحصيل رزقهم. التمدن «شغلة» كبيرة. تتمدن القرية حين تردم النهر لتنشئ «بيسين»: قرية من دون «بيسين» قرية خارج الموضة.
يختلف المشهد في بلدات عكار السنية المكتظّة عن تلك المسيحية شبه الفارغة. من الحي المسيحي في العبدة، فبقرزلا، الحاكور، منيارة، جديدة، الحكر، الشيخ طابا، حلبا، صعوداً في الجبل المسيحي سواء باتجاه شدرا غرباً أو بينو شرقاً، بلدة واحدة بحالات متشابهة: ريشار في كندا، أيمن في السعودية، جوزف في الكويت، دريد بين قطر وأستراليا، منى في فرنسا، عبدالله في بيروت؛ هؤلاء تخرجوا من الجامعات قبيل مغادرتهم القرية. يمكن تعداد عشرة آخرين على الأقل تخرجوا من المدرسة الحربية ويقسمون اليوم وقتهم بين القرية والثكنات. في الثكنات ثلثا من لم يكملوا دراستهم. الثلث المتبقّي موزع بين مطاعم بيروت ومستشفياتها وشركات الحراسة. يبقى في القرية سبعة شبّان: شرطي بلدية، ناطور مدرسة، سائق «اوتوكار» وأربعة أساتذة.
ليس هذا كله في الشوف أو عاليه أو حتى قرى جرد بعبدا التي تهجّرت في الحرب. لم تهجّر الحرب قرى عكار المسيحية، السلم فَعَل. تجاوز عدد الناخبين المسيحيين العكاريين في انتخابات 2009 الـ 70 ألفاً. ليوازي بذلك الناخبين المسيحيين في الشوف وزحلة وبعبدا، ويتجاوز الناخبين المسيحيين في الأشرفية وجزين وجبيل والبترون والكورة وحتى بشري. رغم ذلك، لا تتسابق «أل بي سي» و«أم تي في»، وأخيراً «نيو تي في» على تثبيت الكاميرات في القرى شبه المهجورة لإظهار حجم النزوح المسيحي. ليس لأن المسيحي العكاري لا يتقن لعب دور الضحية، بل لأنه يصرّ دوماً على إظهار اندماجه في بيئته. انسجاماً مع الأكثرية الشعبية. لا يخرج صوت لسياسي أو كهنوتي يدق، كلما طلع على باله، جرس الخشية على ما تبقى من وجود مسيحي في المنطقة. الناس طائفيّون هنا؟ طبعاً. لا يرضى المسيحي تزويج ابنته لسني، والعكس؟ طبعاً أيضاً. يفضل المسلمون لو كانت عكار كلّها مسلمة. والعكس؟ طبعاً أيضاً وأيضاً. لكن لا تقام القداديس، أسبوعياً وسنوياً، على نية من قُتلوا في الحرب الأهلية لأسباب طائفية. لا تقرع الأجراس في موعد الآذان «جكارة بالمصلين» أو العكس. لا يشعر أحد أن لهويته الطائفية علاقة بالسرير الذي أعطي له في المستشفى، أو مقعده الدراسي أو الوظيفة التي ثبت فيها. يتهامس المسيحيون عن المسلمين هنا بعض الأشياء المضحكة، والعكس أيضاً، لكن لا يشعر سامعهم بكرههم بعضهم بعضاً أو بالحقد الموجود في أمكنة أخرى: في بعض قرى الشوف، لا تزال صور القتلى ماثلة أمام عائلاتهم، فيما القاتلون يسرحون ويمرحون أمامهم. في بعض قرى كسروان، لم يلتق بعض المسيحيين طوال حياتهم بمسلم. فيما تشهد بعض المناطق المتداخلة طائفياً، مثل بعبدا وجبيل وزحلة، مناوشات يومية. أما عكار فتختلف: في المدرسة الأرثوذكسية نصف التلامذة مسلمون. وفي الراهبات الباسيليات الشويفيات، النصف مسلمون وحبة مسك أيضاً. في سوق حلبا التجاري، يستحيل تمييز التاجر المسيحيّ من المسلم. تطغى الهموم التي تجمع المواطنين والأرض التي يفلحونها معاً والمنتجات التي يسعون الى بيعها والاحتفالات التي يجتهدون لإنجاحها والأعياد والأحزان التي يتشاركونها، على ما يفرقهم. حتى السياسة تعجز عن دفع الأهالي إلى تجاوز الخطوط الحمراء كما يحصل في مناطق أخرى: عكار قلعة تيار المستقبل، وهي أيضاً خزان العونيين الشعبي الأول. رغم ذلك، نادراً ما يتقاتل عكاريون لأسباب سياسية.
لم يترك المسيحي العكاري قريته لأن جاره الدرزي استولى على منزله كما في الشوف وعاليه، أو لأن الضغط الإسلامي فاق قدرته على الاحتمال كما في طرابلس. تراهم على سطح إحدى البنايات المتهالكة في الدكوانة يلعبون الورق. خمسة شبان من بلدة عكارية، ثلاثة منهم يعملون في أحد الأفران الكبيرة ثماني ساعات يومياً وفي شركة أمن ثماني ساعات أخرى. الزيتون يطعم زيتوناً، يقول أحدهم: لا خبز ولا ملح. يوضح أن نزوحه اقتصادي: «الأيام تغيرت ومن يعمل في الزراعة ينسى شكل الدولار». «لا شركات خاصة في عكار، لا فرص عمل ولا دولة تتبنى القطاع الزراعي لتشجع الشباب على الانغماس فيه»، يقول آخر. بعيداً عنهم، في جل الديب، صبيّة من قريتهم افتتحت قبل نحو عام عيادتها لطب الأسنان. تستطيع الآن التنقل بين غرفتها الصغيرة في الفنار وعيادتها بسيارتها السبور الفخمة من دون أن تسألها جارة عن وجهتها أو عن سبب تأخرها في العودة إلى المنزل أو لماذا لم تتزوج بعد. «الثرثرة والضغط الاجتماعي هشّلاني»، تقول. صديقتها السابقة انتقلت إلى المنصورية بعد انجابها طفلها الثاني وتأكدها أن البيئة المدرسية بما يصاحبها من نشاطات فنية ورياضية وحتى لغوية في جبل لبنان أسلم بكثير من عكار. هجرة تربوية إذاً. في أحد المجمّعات التجارية الكبيرة، صبيّة ثالثة يشغلها أحد أهم المواقع الإدارية في الشركة عن استذكار قريتها التي لو بقيت فيها لكانت تنام، تستيقظ، ترتب سريرها، تأكل... وتنام مجدداً.
الفرق بين عكار والشوف وعاليه وغيرها أن القرى غير المأهولة الاّ بالعجّز وأسر العسكريين والمعلمين وبعض موظفي الإدارات العامة خلال أيام الأسبوع، تعمر في نهايته. ليس نزوحاً جماعياً. الشباب الذين يعملون في بيروت وجبل لبنان لا يعتبرون أن مسكنهم الأساسي بات في العاصمة، هم هنا لمجرد العمل. أهلهم في عكار وكذلك منازلهم ولهجتهم.

في الأسبوعين الماضيين تغيرت الحياة. كان «الويك إند» فيهما مختلفاً عما تعرفه تلك البلدات عادة. لم تعد الحياة إلى طبيعتها بعد تحريض نواب المستقبل أهاليهم على الجيش وبعضهم على بعض. انكسر شيء ما. والدة خليل ترجوه تأخير زيارته السنوية لهم هذا الصيف. جدة أحدهم ترجوه على الهاتف ألا يقصد البلدة ليطمئن على جده المريض، فيما تنطلق المخيلات لوضع نسخ جديدة من رواية ليلى والذئب: ليلى المسيحية الوديعة والذئب السلفي المستفرس. الآن فقط يقول أكثر من شخص في أكثر من بلدة: «هذه المنطقة ليست لنا». الآن فقط يخرج صوت موجوع يردد: «كان سمير جعجع محقاً، لا يمكن العيش معهم». الآن ينتبه بعض رؤساء المجالس البلدية إلى خطورة الاتصالات التي تردهم من أبناء بلداتهم المقيمين في بيروت ليطلبوا عرض منازلهم وأراضيهم للبيع. الآن تدخل عكار في دوامة اللقاءات الساذجة فيتنادى رجال الدين المسيحيون والمسلمون إلى اجتماع هنا وعشاء هناك للقول «كلنا أخوة». الآن، فقط، يصبح «انتشار الجيش هو الضمان» لعدم تقتيل المواطنين بعضهم بعضاً.
في الأسبوعين الماضيين، انطوى القواتيون على أنفسهم في عكار بعدما أحرجتهم نظرات تحمّلهم المسؤولية عما يفعله ويقوله حلفاؤهم. بينما انبرى بعض الناشطين في القوات ينظّرون عن حماية تحالف القوات والسنّة لقرى المسيحيين. وكأنهم يقولون: «لولانا لاعتدى المسلمون عليكم». مع اجتهاد هؤلاء في محاولات مضحكة لإقناع أهلهم بأن سلاح السلفيين سيحميهم في نهاية الأمر من سلاح حزب الله. مع العلم أن القواتيين يغيبون بشكل كامل عن الحوادث الميدانية التي تشهدها عكار، خصوصاً قطع الطرقات المستمر. وحتى في القبيات، سعت القوات إلى استيعاب النقمة الشعبية التي أجّجها العونيون ضد النائب هادي حبيش نتيجة مواقفه الأخيرة، واتهام بعض أهالي البلدة له بالوقوف وراء توقيف استخبارات الجيش لأبنائهم، بتهمة توزيع مناشير تنتقد سعادته. أما العونيون فيشمتون بخصومهم، متمخترين في مشيتهم، مرددين: «رأيتم؟ كنا على حق، ليس السنّة أهل الاعتدال بين المسلمين، الشيعة هم الاعتدال كله. هناك ثمة أمير واحد تعرفه فتتفاهم معه، هنا لكل محرقة دواليب أمير». أما القرى فتنشغل بقلقها عن الفريقين. تكاد لا تعيرهما أي اهتمام. الوقت ليس للشماتة: ثمة مجنون يسرح ويمرح في عكار، يركض خلفه مختلّ، وتتفرّج عليهما مجموعة عاجزين لا يقدمون ولا يؤخرون في المشهد الشعبي أي شيء. يقلق من لم يعتادوا القلق مدركين أن ابناءهم قد يقتلون على الطريق من قريتهم إلى عملهم أو العكس بفشّة خلق أحد المتعصبين حماسة لجعجع أو «المعصّبين» من ميشال عون. قلق من أن تدفع تلك القرى شبه النائية ثمن الجنون، خصوصاً أن مسيحيي عكار ومسيحيي وادي النصارى أبناء أبرشية ارثوذكسية واحدة، ويومياً ترد الى مسيحيي عكار أنباء عن الأثمان التي يدفعها مسيحيو وادي النصارى، خطفاً وقتلاً وتهجيراً جماعياً، منذ بداية الأحداث في سوريا.
ثمة قرى كان نزوحها اقتصادياً، لا سياسياً ولا طائفياً، تشهد تحولاً اليوم. ثمة قرى تتطوّر إلى الأسوأ والأبشع. قرى تستيقظ على شبح طائفي كان مَخفيّاً. قرى الآن تقول: كنا نعضّ على الجروح، كنّا نكذب بشأن عيشنا المشترك وحياتنا الواحدة. هؤلاء الذين يتركون خالد ضاهر يتكلم فرحاً مرحاً باسمهم لا يمكن العيش معهم.
لا تنفع هنا الصلوات المشتركة أو الاحتفالات الخطابية. لا بدّ من أصوات جدية تخرج من البلدات المجاورة، تعلو فوق صوت ضاهر، مرددة: لا، خالد ضاهر ومن يشبهه لا يمثلوننا، تماماً كما لم يكن جعجع يمثلكم يوم كان يقول ما معناه إن هؤلاء المسلمين لا يمكن العيش معهم.