«ليس هناك داعٍ إلى أن نعلن الحداد والإضراب، نحن هنا موقفين أشغالنا خلقة الله». هكذا يجيب مواطنون في باب التبانة رداً على سؤال بشأن التزامهم بقرار الهيئات الاقتصادية والنقابية وهيئات المجتمع المدني في طرابلس، الذي أعلن يوم أمس يوم إضراب وحداد في المدينة، كشكل من أشكال التعبير عن رفض ما تشهده المدينة من اقتتال.
لا شيء في باب التبانة يدل على أن الحياة الطبيعية قد عادت إليها، سوى تجمّعات لبعض المواطنين قرب عربات بيع القهوة، حيث كانوا يتبادلون أطراف الحديث، مرور بعض سيارات الأجرة، وقيام عدد من أصحاب المحال التجارية بفتح أبوابها لدقائق، لتفقدّها، ثم إغلاقها لاحقاً.
«نحن هنا ناس على باب الله، من لا يعمل فينا لا يأكل ولا يشرب لا هو ولا عائلته». هكذا يجيب أحد الذين سئلوا عن كيفية مواجهتهم الظروف الصعبة التي عاشوها إبّان أيام الإشتباكات الأخيرة، قبل أن يضيف: «نحن ناس معترين وفقراء، ولا نريد كل ما يجري من اقتتال، لكننا في المقابل نرفض أن نكون مستهدفين، فنجد أنفسنا مضطرين إلى الدفاع عن عائلاتنا ومنطقتنا بعد عدم إيجادنا من يحمينا».
هذا «الاضطرار» إلى الدفاع عن النفس في وجه الآخر، يكشفه شبّان في المنطقة رفضوا الكشف عن أسمائهم، بإشارتهم إلى أن ذكريات الأيام السوداء، وخصوصاً مجزرة باب التبّانة عام 1986، التي ذهب ضحيتها مئات الأشخاص على أيدي القوات السورية، «لا تزال حاضرة في عقول الناس في المنطقة وفي أنماط تفكيرهم، وهم يتصرّفون من منطلق الخوف من إمكان تكرار المجزرة ثانية»، فيما يكرّر أحد كوادر باب التبانة ما يطلق عليه وصف «الأوضاع الاستراتيجية» بين منطقته ومنطقة جبل محسن المقابلة: «أبنيتهم مرتفعة ومطلة علينا، لذلك فهم يستطيعون إلحاق الضرر بنا أكثر من قدرتنا على أن نفعل نحن ذلك».
على طول شارع سوريا الفاصل بين منطقتي باب التبانة وجبل محسن، الذي تحوّل إلى خط تماس، (وهو خط التماس الوحيد الذي لا يزال موجوداً في لبنان منذ 37 سنة)، تتضح آثار ذلك العداء المُستحكم بين أبناء المنطقتين، الذي ترجم معارك واشتباكات، لم تترك مبنى أو بيتاً أو محلاً تجارياً أو زقاقاً وزاروباً ينجو من قذيفة أو طلقة رصاص أو شظايا قنبلة.
كل مشاهد الحرب لا تزال حاضرة هنا. المتاريس والدشم التي غابت بعد انتهاء الحرب الأهلية مطلع تسعينيات القرن الماضي، عادت مرة ثانية. إذ لا يخلو مفترق طريق أو مدخل زاروب أو حي من ساتر ترابي استخدمه المسلحون في الاشتباكات الأخيرة، وهو مشهد يمتد على طول شارع سوريا (3 كيلومترات تقريباً) ابتداءً من مستديرة الملولة وصولاً إلى مدخل سوق الخضار والفواكه، حيث وضعت أكياس الرمل فوق بعضها بعضاً على شكل «متراس»، تحت أبنية متصدّعة ومتهالكة نتيجة المعارك التي دارت في المنطقة أواسط ثمانينيات القرن الماضي، وبقيت بلا ترميم أو تأهيل.
الأدراج القديمة التي تربط بين أزقة منطقتي باب التبّانة وجبل محسن، في محلة بعل الدراويش تحديداً، سُدّت نهائياً بالدشم والسواتر والشوادر من الجانبين، بارتفاع يتجاوز أحياناً 4 أمتار، ولدى الاستفسار عن السبب، يأتي الجواب أن «ممرات الأدراج كانت تكشف المسلحين أثناء المعارك، لذلك جرى سدّها بهذه الطريقة حتى يسهل على المسلحين الانتقال خلفها من منطقة إلى أخرى، من دون أن يتعرضوا للرصاص والقنص من الطرف الآخر».
خلال الجولة السابقة من الاشتباكات التي شهدتها المنطقتان منتصف أيار الماضي، غادرت عائلات كثيرة بيوتها، وخصوصاً تلك المقيمة على جانبي شارع سوريا. من هم في جهة جبل محسن انتقلوا إلى «داخل منطقتهم» حيث يقيمون لدى أقاربهم والمدارس والنوادي، ومن هم في جهة باب التبانة يلجأون إلى داخلها، ومناطق أخرى قد تكون أكثر أمناً.
«هل تنصحني بالعودة إلى بيتي أم أبقى خارجه؟»، يسأل أحد المواطنين الذين غادروا منازلهم منذ الجولة السابقة للمعارك ولم يعد إليه بعد، فيرد عليه أحد كوادر المنطقة بأن «الوضع غير مطمئن حتى الآن، ولا بأس من الانتظار قليلاً». يوضح السائل أنه مقيم عند أقارب زوجته في أبي سمراء، وأن منزله الكائن في شارع سوريا، الذي يقيم فيه منذ 35 سنة، قد تعرّض لأضرار، «تكسّرت نوافذه واخترقت عدة رصاصات جدرانه. صحيح أنه لم يحترق أو يُسرق، لكنني أخشى العودة إليه الآن قبل أن تستقر الأوضاع على نحو أفضل»، يقول.
أثناء الاشتباكات، خلت معظم البيوت في شارع سوريا من سكانها. يصف أحد الشبّان كيف غادر وأفراد عائلته المنزل من المدخل الخلفي للبناية، لكن بعدما تبين أنه لا مدخل خلفياً للبناية، يوضح أنه «أثناء المعارك كان الخروج من المدخل الرئيسي المطلّ على شارع سوريا يعني الذهاب إلى الموت بأرجلنا، فوضعنا سلماً خشبياً تحت شرفة منزلنا الواقع في الطبقة الأولى، ونزلنا عليه جميعنا قبل أن نخرج من المنطقة». وعندما سُئل ماذا فعل سكان الطبقات الأعلى، أوضح أن «الطابق الأول تحول إلى ممرّ، كان يمر فيه كل من كان يريد الخروج من البناية!».
نزوح أهالي المنطقة منها إبان الاشتباكات الأخيرة، أعاد إلى الأذهان بعض مشاهد أحداث مخيم نهر البارد عام 2007، عندما أقامت عائلات نزحت منه إلى مخيم البداوي المجاور في كاراجات، بعدما تعذر عليها العثور على شقة. في الأيام الأخيرة كانت كاراجات عديدة مأوى لعائلات من باب التبانة اضطرت إلى أن تبيت فيها، وأن تفترش الأرض هرباً من المعارك، وبعدما ضاقت بها السبل في العثور على أي مأوى مناسب لها.
«إذا أردت أن تراهم كيف يعيشون في الكاراجات يمكن ذلك في المساء»، يقول أحد أبناء باب التبانة، وهو يشير إلى زقاق متفرع من شارع سوريا. «هناك، ما إن يهبط الليل حتى يخرج بعض سكان الشارع من بيوتهم ويتوجهوا إلى داخل المنطقة، للنوم في كاراجات باتت أكثر أمناً!».
هذا الوضع يجعل بعض أهالي المنطقة يصبّون جام غضبهم على النواب والوزراء والمسؤولين في المدينة، الذين «لا يتذكروننا إلا أيام الانتخابات»، على حد قول أحدهم. يضيف آخر داعماً كلامه إن «أي نائب أو مسؤول لم يدخل إلى التبانة إلا ومعه كاميرا كي تصوره ويظهر في الإعلام أنه مهتم بنا، بينما في الحقيقة ما حدا عنده صوبنا شي لوجه الله!».
قبل ظهر أمس كان عناصر الجيش اللبناني يذيعون من مكبرات الصوت أنهم سيفجرون قذائف لم تنفجر في المنطقة حتى لا يدبّ الذعر بين الأهالي. بعدهم بدقائق كانت دورية من قوى الأمن الداخلي تجوب شارع سوريا، لكن ذلك لا يدخل الأمان إلى نفوس الأهالي، الذين يرى بعضهم أن «ما تراه مجرد فولكلور. عند أول طلقة رصاص لن ترى أحداً منهم هنا!».
وكانت «هيئات المجتمع الأهلي» في طرابلس قد عقدت اجتماعاً في رابطة الجامعيين في طرابلس لمتابعة الوضع، كما نظم طلاب وإداريو جامعة الجنان لقاءً حداداً على أرواح الشهداء الذين سقطوا خلال أحداث طرابلس المتتالية، ورفضاً للغة السلاح.



تطهير عرقي!؟


شهدت الاشتباكات الأخيرة في طرابلس أمراً لم تشهده أيّ من جولات الاشتباكات السبع التي دارت في المدينة منذ أحداث 7 أيار 2008، إذ تعرضت محال وبيوت للاعتداء على نطاق واسع. في باب التبانة يشير كوادر إلى أن «مقاتلين من جبل محسن أحرقوا لنا 3 منازل عبر قنابل مولوتوف في منطقتي الملولة وبعل الدراويش، عدا بيوت أخرى احترقت أثناء المعارك». في جبل محسن تتكرر الرواية، لكن بالمقلوب.
الأخطر في رأي مسؤولين في جبل محسن تعرض محال تجارية خارج منطقتهم للاعتداء، كاشفين عن أسماء محال تقع في باب التبانة وشارع عزمي والميناء وغيرها تعرضت للحرق والسرقة، وأن شباناً من الجبل تعرضوا للضرب وهم في طريقهم إلى أشغالهم خارجه.
يستنكر المسؤولون في جبل محسن ذلك ويسألون: «هل يريد البعض القيام بتطهير عرقي؟»، وفيما يؤكدون أنهم لن يردّوا بالمثل، يبدون عتباً على قادة المدينة السياسيين الذين لم يستنكروا الأمر، متسائلين «هل يخافون من خسارة أصوات انتخابية فيتغاضون عما يحصل؟!».