ناهض حتر *قليلة جداً حتى الآن، بل نادرة ومتفرّقة تلك الأصوات الفلسطينية التي أعربت عن تضامنها مع الحركة الوطنية الأردنية في مواجهة مشروعَي الوطن البديل (العربي ـــــ الأميركي، والقائم على مبدأ دولة فلسطينية في جزء من أراضي 67 والتوطين)، والدولة البديلة (الصهيوني والقائم على إقامة تلك الدولة في الأردن). أكثر من ذلك، فهناك هجمة مضادة تتهم الوطنيين الأردنيين «بالعنصرية»، وتؤكد على حقوق الفلسطينيين السياسية في الأردن. ويستخدم محركو هذه الهجمة خطابات متناقضة، لكنها تصبّ في المجرى نفسه، ومنها:
1 ــ الخطاب الهاشمي، ويقوم على تأييد مقولات النظام عن ظهور شخصية أردنية هاشمية «من شتى الأصول والمنابت»، معيارها الأساسي ليس «الانتماء» بل «الولاء».
2 ــ الخطاب الشخصي، ويقوم على قول صريح متكرر: «ليس لنا علاقة بفلسطين. ولدنا وتربينا وعشنا هنا. هذا بلدنا الوحيد».
3 ــ الخطاب القومي العربي، ويقوم على الأطروحة التقليدية التي تنفي الوطنيات المحلية (القطريات) وتجرّمها.
4 ــ الخطاب الليبرالي الحقوقي، ويقوم على تغييب البعد السياسي للجوء الفلسطيني في الأردن، والتركيز على حقوق المواطنة، متخذاً المثال الأميركي لـ«بلد المهاجرين».
5 ــ الخطاب الفلسطينوي الراديكالي، ويقوم على المماهاة بين النظام الأردني والأردن، ويطرح معادلة انتقامية صريحة تقول بما أن النظام مسؤول عن مصائب الفلسطينيين منذ 48، فإن على الأردن أن يدفع الثمن الآن.
6 ــ الخطاب نصف الإقطاعي ـــــ نصف البورجوازي، ويقوم على قداسة حق المِلكية. فالحقوق السياسية لفلسطينيّي الأردن تنبع من حجم ملكياتهم العقارية والشركاتية وثرواتهم. وهو ما يُطرح تحت عنوان «دورنا في بناء البلد».
7 ــ الخطاب الاستعماري، ويقوم على اعتبار معاهدة وادي عربة مع إسرائيل مرجعية قانونية للتوطين من جهة، والاستنجاد بالتدخل الأميركي لحماية الفلسطينيين، وضمان حقوقهم في الأردن.
في الخطابات (وخصوصاً من 3 إلى 7) التي حددناها لدى استعراض مئات المقالات والتعليقات الإلكترونية والبيانات والنقاشات، لا يرى القائلون بالتوطين السياسي أي تناقض بين أطروحاتهم وبين التأكيد على حق العودة.
لكن حقّ العودة هو، في النهاية، حق سياسي مرتبط بالحقوق الوطنية الفلسطينية. وإذا كان من المفهوم والضروري تلافي الموقف (العنصري فعلاً) الذي يحرم اللاجئ الفلسطيني (كما هي الحال في لبنان مثلاً) حقوقه المدنية والمعيشية والإنسانية، تحت شعار التمسك بحق العودة، فإن المطالبة بكوتا سياسية في الأردن (حيث ينال الفلسطيني كل حقوق المواطنة) لا يمكن أن تعني سوى شطب حق العودة.
إن المعادلة التي تطرحها الحركة الوطنية الأردنية على فلسطينيي الأردن لا تشتمل على أي نظرة عنصرية. فهي إذ تؤكد على ـــــ وتناضل من أجل ـــــ تأمين حقوق المواطنة والإقامة والحقوق الاجتماعية والمدنية للفلسطيني كفرد، فإنها ترفض أن يكون للفلسطينيين ـــــ ككتلة ـــــ حقوق سياسية في الأردن، كما هو مطروح الآن. ولهذا الرفض سببان: فلسطيني وأردني.
ــ فلسطينياً، يُعدّ منح فلسطينيي الأردن ـــــ ككتلة، سواء على أساس كونهم فلسطينيين أو أردنيين من أصل فلسطيني ـــــ حصة سياسية مسمّاة في الدولة الأردنية، يُعدّ إنهاءً واقعياً وسياسياً وقانونياً لحق العودة. إنه ينهي صلة أكبر تجمع للاجئين بفلسطين. وهذا ما أصبح مقرراً في سياسات السلطة الفلسطينية بصراحة، في سياق سعيها إلى إنشاء دويلة جرى تعريفها أخيراً بأنها «مصلحة قومية أميركية».
ــ أردنياً، سيؤدي تطوّر كهذا إلى تحويل الدولة الأردنية إلى دولة محاصصة سياسية ـــــ ديموغرافية، كما هي الحال الآن في لبنان والعراق. وسوف يمنع وضع كهذا تطور الحياة السياسية والدمقرطة والتقدم الاجتماعي الوطني، عدا عن أنه سيكون مصدراً دائماً للتوتر السياسي والأمني، يضع البلاد، باستمرار، على شفير الحرب الأهلية.
يضعنا ذلك في مواجهة نقدية صارمة مع خطابات التوطين الموصوفة أعلاه:
1 ــ لا يمكن إلغاء الهويتين الوطنيتين، الأردنية والفلسطينية، لمصلحة هوية هاشمية على المثال السعودي. فهاتان الهويتان متجذرتان، الأولى في دولة قائمة ومتنامية ومؤطرة منذ سنة 1920، والثانية ليس لها ـــــ بسبب ارتباطها بالقضية الفلسطينية ـــــ نظير من حيث القوة والحضور في المشرق العربي. وقد يقبل المزاج الفلسطيني العام في الأردن الهوية الهاشمية، كخلاص من الأزمة، لكن ذلك لن يلغي ترابط الكتلة الفلسطينية وهويتها واقعياً. وستظل، بالتالي، خارج الاندماج. كذلك، فإن الاتجاه العام بين الأردنيين ليس مستعداً، على رغم ما يُظهر من ولاء للهاشميينن للتخلي عن الهوية الأردنية للدولة. هذا الخيار مقفل.
2 ــ الخيار الشخصي للانتماء إلى الشعب الأردني (وهو يشتمل، وفق الدراسات المعنية، نحو 10 في المئة من فلسطينيي الأردن) هو خيار فردي، ولا يطرح، بطبيعته، التوطين السياسي الجماعي، بل حقوق المواطنة الفردية. وهي مصونة في كل الأحوال.
3 ــ ليس لنا اعتراض على الخيار القومي الوحدوي (ولكن من دون تجريم الخصوصيات)، بل نحن نطرحه مع سوريا والعراق، ولكننا نرفضه كحجة ديماغوجية للتوطين السياسي للاجئين في الأردن وشطب حق العودة، كما نرفض أية صلة وحدوية مع دويلة فلسطينية خاضعة للنفوذ الإسرائيلي. فمن شأن وحدة كهذه نقل الاحتلال ـــــ سياسياً وأمنياً واقتصادياً ـــــ إلى شرق النهر.
4 ــ حق المواطنة الليبرالي هو حق فردي وشخصي. وهو مكفول. ولكنه لا يحيل على حقوق جماعية. هنا، لا نتحدث عن حق المواطنة بل عن حق تقرير المصير. وهذا الحق، بالنسبة إلى الفلسطينيين، لا ينفصل عن حق العودة. كذلك، فإن حقوق المواطنة الليبرالية المعتبرة في الغرب، وحتى حقوق الأقليات، لا تنطبق على فلسطينيي الأردن، أولاً، لأنه لا يمكن فصلها عن حقوق الفلسطينيين في فلسطين المحتلة والمغتصبة، وثانياً، لأن الفلسطينيين في الأردن ليسوا أقلية، بل يكوّنون نحو 50 في المئة من المواطنين، والاعتراف بحقوق سياسية جماعية لهم لا يعني سوى نشوء نظام محاصصة يشق البلاد، ويدفعها إلى الصراع الداخلي، لمصلحة أمن إسرائيل.
5 ــ لن نساجل في دور السياسات الرسمية الأردنية في تعقيد المسيرة الوطنية الفلسطينية. ولكن هل تبرر تلك السياسات الروح الانتقامية ضد الشعب الأردني؟ ألم يكن هذا الشعب بالذات، أكثر الشعوب العربية قرباً ومودة وإيثاراً للفلسطينيين؟ ألم يقاتل الوطنيون الأردنيون والفلسطينيون معاً ضدّ الغزاة الصهاينة؟ ألم يناضل الشعبان معاً ضد السياسات الرسمية الأردنية والعربية الضارة بالنضال الفلسطيني؟ وأخيراً، هل يمكن القبول بالروح الانتقامية لدى الفلسطينيين ضد شعب عربي شقيق؟ ألا يجدر أن تكون مشاعر الانتقام موجّهة إلى العدو المشترك؟
6 ــ تنشأ المِلكيات والثروات عن الاستغلال والامتيازات. ولا بد للطبقات الشعبية، بغض النظر عن هوياتها، أن تنظر إلى الرأسمالية الفلسطينية في الأردن، لا «كبانية»، بل كمستغلّة للكادحين من جهة، وكمستفيدة من التعقيدات الخاصة بالقضية الفلسطينية. أيعني القبول بمبدأ الحق السياسي «للاستثمار»، منح آل الحريري ـــــ وسواهم من الرأسماليين الخليجيين والعراقيين ـــــ الذين «يبنون» في الأردن أيضاً ـــــ أي يستغلون وينهبون، حصة سياسية في الدولة الأردنية.
ينقلنا هذا المنطق إلى حقل السجال الاجتماعي بامتياز. الكادحون الأردنيون والفلسطينيون معاً متضرّرون من تحوّل الأردن إلى مركز للكمبرادور الفلسطيني والعربي. لقد دمّر ما «بناه» و«يبنيه» هذا الكمبرادور العقاري والمالي ـــــ بالخصوص بالشراكة مع الكمبرادور الأردني ـــــ البنى المدينية والإنتاجية، وخرّب الأراضي الزراعية، وحطّم الطبقة الوسطى، وأفقر الأغلبية، وأفسد الإدارة والحياة السياسية والثقافية.
7 ــ ولن نساجل مَن يرون أن معاهدة وادي عربة مرجعية قانونية، ولكننا نذكّر مَن يريدون حسم المسألة بالاستقواء بالتدخّل الأميركي، بالمثال العراقي.
نحن نقترح، في المقابل، شراكة أردنية ـــــ فلسطينية، لا في دولة محاصصة في الأردن بل في مقاومة العدو الإسرائيلي. وما زلنا ننتظر أن تخرج النخب والقوى الوطنية الفلسطينية عن صمتها ـــــ الذي يوجعنا ـــــ إزاء الخطط الأميركية والعربية الرسمية والإسرائيلية. وهذه الخطط تختلف في الجزيئات والشكليات، ولكنها تنطلق من فكرة واحدة، هي تصفية القضية الفلسطينية في الأردن، وعلى حسابه.
* كاتب وصحافي أردني