«ع السكت» اعتقد أصدقاء الأب مارون عطاالله أنهم يحضّرون لاحتفال تكريمه. صدّقوا أنه غير «مشتلق» لتحرّكاتهم واجتماعاتهم، إلى أن «استحقوها» واضطروا إلى إخباره بما كان يشعر به منذ وقت. زاروه في دير ماريوسف ــ بحرصاف وقالوا له «ما بقا فينا نخبّي عليك، نريد تحديد الموعد». وافق، لكنه اشترط أن يكون «اللقاء ــ التحية» الذي يحضّر له، موجهاً إلى كلّ واحد منهم. وأن ينتظروا ستة أشهر ينجز خلالها كتاباً يتضمن أعماله بتفاصيلها، ليؤدي التحية إلى كلّ من عمل معه في المواقع التي تنقل فيها: من الليلكة مكان ولادته، مروراً ببعبدا، الحدت، زحلة فرنسا، وليس انتهاء بانطلياس.
لم يُعط الأب مارون الوقت الذي طلبه لإنجاز الكتاب، فأعد كتيّباً صغيراً تحت عنوان «لولاهم لما كان أيّ شيء من كلّ ما كان»، اختصر فيه نشاطاته على مدى نحو خمسة عقود، موجّهاً التحية، اسماً اسماً إلى كل من عمل معه طيلة تلك السنوات. زملاؤه بدورهم حيّوه على طريقتهم، وأعدوا كتاباً حمل عنوان «الراهب المواطن» ضمّنوا فيه شهاداتهم، تحضيراً لاحتفال التكريم الذي أقيم في 20 نيسان الجاري، في دير مارالياس في انطلياس.
هنا، حيث التقيناه، في دير مارالياس «لا فضل لأحد منّا. هذا الدير هو صاحب الفضل على الجميع. إنه أشبه بمزار». لا يعرف لماذا. هو هكذا، على الرغم من وجود عشرات الأديرة التي تحمل اسم مارالياس في لبنان «لكن، هل هي صدفة أن يكون هذا الدير هو المكان الذي اختير ليشهد عاميات انطلياس؟» يقول. هذا الدير شهد أيضاً ولادة «نادي الشراع عام 1964» يضيف الأبونا،ـ وهو يدخلنا إلى الصالون حيث كانت تعقد اجتماعات ذلك النادي. يتحدّث عن قدّاس الأطفال، ثم قداس الشباب، اللذين كانا ينظمان منذ مطلع السبعينيات، وساهمت مشاركة الفنان زياد الرحباني في تفعيل الأخير. ولا ينسى الحركة الثقافية والمهرجان اللبناني للكتاب، والمسرح الديني، ومؤتمر تجديد العيش المشترك الذي أسس لحركة «انتظارات الشباب» في منتصف التسعينيات. كلّ هذه مقدّمات لما يقوم به حالياً: التحضير لإطلاق حركة «معاً نعيد البناء»، الطامحة إلى نشر الترات المشرقي.
يحكي عن هذه الحركة بحماسة، ويستطرد في شرح معنى التراث المشرقي وأهمية التعدّد الديني الذي تعرفه المنطقة، خالصاً إلى القول: «الأديان دروب، كل منا يختار دربه ويذهب لعند الله بديانته، لو شاء ربكم لجعلكم أمة واحدة».
من يعرف الأبونا مارون، لن يجد كلامه غريباً. لكن السؤال يبقى مطروحاً عن قدرة رجل الدين على التوصل إلى قناعة مماثلة. هل هذا سهل؟ يعترف بأنه ليس سهلاً، لكن الأمر حصيلة «مؤهلات شخصية وروافد بيئية». يشرح: «العيش في مجتمع مختلط غير العيش في مجتمع له صوت واحد. أنا ولدت في الليلكة. وفي مقابل بيتنا كان يقع دير اللعازارية. أتذكر أنه في أول جمعة من كل شهر كانوا يصمدون القربان، (ويقيمون الصلوات)، فكانت أمي تقول لنا: يا ولاد وطوا صوتكن، القربان مصمود بالدير. وعندما كان المؤذّن يؤذّن للصلاة كانت تقول: يا ولاد وطوا صوتكن، الشيخ عم يصلي». هكذا، بالاحترام ذاته، علّمت «أم وديع» أبناءها الاعتراف للآخر بمساحته. «يعني هذه تربية، ما إلك بالفضل. كنا عايشين هيك» يقول.
بالعفوية ذاتها، يجيب الأبونا عن سؤال عن سبب التحاقه بالرهبنة وهو ابن الثانية عشرة: «ع الهبلنة. مخمنة (تعتقدين) أنها وحي؟» يقول ضاحكاً. الأمر بكل بساطة «أننا كنا نقيم في الليلكة، وكان يطلّ علينا ديرمار أنطونيوس في بعبدا. كنت أنظر إليه وأقول أريد الالتحاق به، خصوصاً أن لي أقارب فيه. كل ما كان يدور في بالي أني أريد أن أذهب إليهم. لا شيء أكثر من هذا». كان ذلك في العام 1940. لم يشعر الفتى عبده الياس عطاالله، الذي سيعرف لاحقاً بالأب مارون، بالتردّد بعد التحاقه بالرهبنة «ربما لأن أجواءنا في الضيعة كانت مماثلة لأجواء الدير. لم يكن هناك فرق كبير بين الحياتين. كنا نجتمع كل مساء ونصلي أمام مذبح العذراء في البيت. نظام الناس في ذلك الوقت كان نظاماً رهبانياً». يعطي الأب مارون أهمية كبيرة لالتحاقه بالرهبانية الأنطونية، لتميّزها عن غيرها من الرهبانيات المارونية بالانفتاح: «لقد وزّعها مؤسسها البطريريك جبرائيل البلوزاني في المجتمعات المختلطة، بين الدروز والشيعة، عكس غيرها من الرهبانيات المارونية التي تركزّت كلّها في مجتمعات مسيحية صرف وخصوصاً في وادي قاديشا».
من الليلكة، إلى الرهبانية الأنطونية، كبر الأبونا مارون وهو يحترم الآخر، ويقدّر أهمية وجوده في مجتمع واحد. بل عمل على الاستفادة من هذا التنوّع. وفي الرحلات التي لا يزال يقوم بها إلى المناطق اللبنانية، وعدد من الدول، يتشارك مع أبناء الطوائف الأخرى أخبارهم ونكاتهم. يروي مثلاً أنه يوم الأحد، لدى إقامة القداس، يقدّم القربان إلى غير المسيحيين، قبل «المناولة». وذات مرة سأل إحدى المشاركات: «كيف شفتِ الخبز المبارك؟»، فأجابت: «خبز مبارك. بس وين الخمر؟». قال: «سلامة فهماتك، الخمر منكرات». فأجابته ضاحكة: «بس يتباركوا ما بيعودوا منكرات».
لماذا إذاً لم نجد الأب مارون يوماً في لجان الحوار الإسلامي ــ المسيحي، يجيب: لأني أفضل «حوار الحياة». يتابع: «كل عمرنا عايشين مع بعضنا. لما يصير خلاف بيكون شواذ». لكن الخلاف نشب، وطال سنوات طويلة. يقاطع «في عزّ الحرب تأسست الحركة الثقافية في انطلياس، وأقيم مهرجان الكتاب واستطعنا أن نستقطب مطلع الثمانينيات أكثر من 150 دار نشر بمساعدة النادي الثقافي العربي».
هذه النشاطات كانت توصف بأنها «عكس السير» في ذلك الوقت، لكنها كانت مؤسسة للتحركات التي ستليها بعد الحرب وأبرزها مؤتمر انتظارات الشباب الذي جمع شباب لبنان منذ العام 1995، ليتناقشوا ويتعارفوا ويتبادلوا التجارب.
واليوم، يبدي الأبونا مارون حماسة مماثلة لإطلاق حركة «معاً نعيد البناء». حماسة لم تخفّ على الرغم من الأربعة والثمانين عاماً التي أمضاها مارون عطاالله يعمل ما يحبّه. برأيه «أنا متقاعد منذ زمن، بما أن المتقاعد يتاح له القيام بالأعمال التي يحبها بعد أن يكون قد أتمّ خدمته».



كيرياليسون

كان دير مارالياس يبحث عن موسيقي يقود «قداس الشباب»، عندما دُعي الأب مارون إلى بقنايا لحضور «سهرية» في العام 1970. قال له كاهن بلجيكي كان برفقته «تبحثون عن موسيقي وهذا الرجل موجود؟». في تلك الليلة، أعطيت لزياد الرحباني أنشودة «نحن ساهرون» (من ألبوم كيرياليسون) فقدّمها ملحّنة في اليوم التالي وتولى مسؤولية قداس الشباب.