جونية القديمة تختفي. انتقلت العدوى إليها من الجميزة. ذاكرتها التراثية شارفت على الاندثار. دروبها لم تعد تشبه نفسها. بيوتها ومحلاتها القديمة تحولت في دفاتر المستثمرين إلى ملاه ومطاعم. شيء ما أشبه بمخطط لمحو ذاكرة جونية، وحثّ أهلها على اعتياد نمط حياة لا يشبههم كثيراً. غاب الإسكافي ومعه غابت آخر معاقل الهوية التراثية للمدينة التي بات زائروها يفتقدون وجوهاً ألِفوا رؤيتها. قبله، غاب مالكو البيوت والمستأجرون القدامى الذين عجزوا عن البقاء أمام إغراء المال والاستثمار. أما الأديرة، فقد اتجهت بدورها نحو الربح السريع، سامحة بتأجير أملاكها بأسعار جديدة بعد هجرة المستأجرين القدامى.
منذ ما يقارب السنتين، وبالتوازي مع طفرة الملاهي العشوائية، تقلّصت أعداد المحال والبيوت التراثية القديمة لتتحوّل إلى أخرى تقام فيها الحفلات الموسيقية، ما حوّل جونية، الواقعة بين المعاملتين والكسليك، إلى نقطة جذب سياحي. لم يستسغ الأهالي هذه الحال. التجار يعبّرون عن استيائهم بسبب فقدان الطابع التجاري للسوق بعد إغلاق عدد كبير من المحال، والسكان يتململون إثر هجرة عدد كبير منهم جونية القديمة، وهدم بعض أبنيتها لتشيّد مكانها مبان حديثة في «حي ذي طابع تراثي» كما تشير لافتة تضعها البلدية هناك.
لا يخفي الأهالي معاناتهم اليومية من عمل المؤسسات السياحية. من الموسيقى الصاخبة إلى أصوات الشبان المرتفعة على الطرقات، وصولاً إلى زحمة السير المستمرة. لم يعد باستطاعة الأهالي والزوار استخدام الأرصفة التي تحتلها طاولات المقاهي وكراسيها. معاناة يقلل البعض من أهميتها، إذ يرون في انتشار الملاهي على امتداد شوارع جونية دليل صحة لمنطقة كسروان. فقد أعطت للمدينة نكهة وحياة جديدتين بعكس سنين خلت.
يتحسّر غاربيس آميان، ابن جونية، على الأيام القديمة. آميان، الذي يتواجد في الشارع المعروف بـ«سوق الكندرجية» منذ العام 1976، يقول إن «وجه السوق تغير». إذ تقلص عدد المحال القديمة من50 الى 12 محلاً تقريباً، تحول معظمها إلى ملاه، وكذلك بعض المنازل القديمة. فمحل السكاف بات للمشروبات، والمكتبة تسلك دربه. هكذا، مات السوق الذي لم يعد مقصداً لغير السياح. آميان، الذي يصل إيجار محله الى مليوني ليرة سنوياً، فقد معظم زبائنه الذين باتوا يفضلون التوجه الى أسواق تجارية أخرى. وهو بات يفكر بترك السوق، خصوصاً إذا قرّر دير بزمار، الذي يملك غالبية المحال، الحصول على نصف الأرباح المتأتية من تحويلها إلى ملاه.
منذ سنتين تقريباً، افتتح أول ملهى في المنطقة. بادرت آلين إلى الطلب من صاحبه التوقف عن تشغيل الموسيقى بعد منتصف الليل لكنها لم تجد آذانا صاغية «وبعدما كنا بملهى واحد أصبح المنزل محاطاً بأربعة». تشكو جوليات من الإزعاج اليومي. أصوات الموسيقى الصاخبة التي تصدح لغاية الثالثة فجراً من المقهى المقابل لغرفة نومها تسبّب لها الأرق. فوجئت السيدة بإعطاء أصحاب المقاهي والملاهي الرخص من دون الأخذ بالاعتبار ما قد تتسبب به من مضايقات للسكان. وكذلك الأمر بالنسبة إلى كلّ من جوزف وجورجيت. الأول الذي يتفهم الطابع الجديد للسوق، لكنه يبدي انزعاجه من الضوضاء في الشارع، مطالباً أصحاب الملاهي بوضع حد لتصرفات روّادها في حين انقلبت حياة جورجيت رأساً على عقب. جزء آخر من السكان يبدو معتدلاً في أحكامه. هؤلاء، وان كانت تصيبهم سهام الازعاج، مقتنعون بأن المشكلة ليست في وجود الحانات بحد ذاتها، بل في غياب قانون ينظمها. في المقابل، يجمع أصحاب الملاهي على تقيّدهم بالشروط الموضوعة من قبل البلدية. أما عن تصرفات الزبائن في الشارع، فيجزمون بعدم قدرتهم على ضبطها، والأمر منوط بحسبهم بالقوى الأمنية.
يقول مدير إحدى الحانات إن الوضع «مش فالت»، فالمراقبة، برأيه، مشدّدة على ملاهي جونية وحاناتها ومقاهيها. ويشير مستثمر إلى تسديده مبلغ 48 ألف دولار سنوياً، بدل إيجار محله المستوفي كل شروط الرخصة. هو على تواصل دائم مع الأهالي في جونية ومطالبه لا تختلف عن مطالبهم، متهماً «القوى الأمنية بالتلكؤ في أداء مهامها عبر تسيير دوريات من الشرطة السياحية»، لأن دوره كمسؤول عن المحل «محصور في الداخل، وأنا لم أخالف القانون ووضعت أبواباً عازلة للصوت. عند هذه الأبواب تنتهي مسؤوليتي لتبدأ مسؤولية الدولة».
يعلّق النادل على ما تقدم به مديره بالقول إن «السكان يزيدونها قليلاً وهم سيظلوا منزعجين حتى لو ضوّينا لهم العشرة». يضيف «هم يعملون في النهار ونحن نعمل في الليل لنعيل عائلاتنا أو نكمل دراستنا».
لا شك في أن العاملين في الحانات غير راضين عن اعتراضات السكان لاعتمادهم على الملاهي في تأمين لقمة عيشهم، حتى قاموا بدورهم بتسجيل اعتراضهم على ما قد يعود به إقفال الحانات من خسائر. فقد تستغني الحانات عن بعضهم أو تلزم البعض الآخر بالمداومة ساعات أقل. «عشرات العائلات تعتاش من حانات جونية وإقفال الملاهي سيخرج الموظفين إلى الشارع» يقول أحد الندّل.
لكن لا يبدو أن مخاوف العاملين مبررة، بما أن اعتراضات الاهالي بقيت خجولة. فـ«الشكاوى لم ترد بشكل رسمي الى وزارة السياحة»، يؤكد ميشال حبيس، مستشار وزير السياحة فادي عبود موضحاً أن «الوزارة تتحرك فور ورود أي شكوى لاتخاذ التدابير اللازمة. فأي مؤسسة سياحية تخالف شروط الاستثمار تعرّض صاحبها للمساءلة. وفي حال تكررت المخالفة تقع في المحاسبة تحت طائلة الإقفال». يوضح حبيس أن «الوزارة معنية بإعطاء الرخص في حال تطابقت مع الشروط والقوانين، والوزارة لا تملك صلاحية الرفض في حال وافقت البلدية على منح الرخصة». أما لجهة المحافظة على الطابع الأثري «فالأمر مرجعه عند البلدية لكونها على دراية بخصوصية المنطقة». ويؤكد حبيس في المقابل أن «الشرطة السياحية تقوم بكشف دوري على الحانات لمراقبة المخالفات وتحرير محاضر ضبط في حق المخالفة منها» مذكراً بأن الشروط تقضي بالسماح بالموسيقى طوال أيام الأسبوع حتى الساعة الواحدة فجراً، وتزيد ساعة في نهاية الأسبوع، داعياً المواطنين إلى الاتصال على الرقم 1735 الخاص بالوزارة لتسجيل الشكاوى.
ويرى حبيس أن الملاهي «تضيف حركة جديدة إلى المنطقة، وتعطيها طابعاً سياحيا مهماً يزيد من عدد الزوار». وهذا ما يوافق عليه رئيس جمعية تجار جونية طوني مارون. لا ينكر الأخير ورود بعض الشكاوى من قبل التجار.. «إلا أن هدف الجمعية هو خلق حالة من التزاوج بين الحياتين الليلية والتجارية. فالتجارة والسياحة يتكاملان، والملاهي تزيد منطقة جونية غنى شرط أن لا يتمدّد عددها بشكل عشوائي، ما يؤثر سلباً على التجار». وفي حين طالب مارون بالقيام بإنشاء «مقاهي رصيف»، لفت الى مشكلة إشغال الرصيف الذي يعوّق حركة المرور متمنياً على أصحاب الملاهي عدم إشغال الأرصفة قبل الساعة السابعة مساء.



مواكبة العصر


لا ينفي رئيس بلدية جونية أنطوان افرام (الصورة) الطابع الجديد للمنطقة، وصعوبة تأقلم الناس مع كل تغيير يطرأ. لكنه يتحدث عن الجانب الايجابي للأمر، فـ«مواكبة العصر باتت ضرورية لما تأتي به من منفعة الى المنطقة. وبعدما كانت جونية في الماضي عبارة عن سوق للخردوات، تطورت مع الوقت لتصبح سوقا تجارية خالية من الناس بعد الساعة الخامسة. أما اليوم، فعاد المشهد ليتبدّل وباتت المدينة مقصداً للزوّار كل أيام الأسبوع. وهم يقصدونها من مختلف المناطق اللبنانية». أما لجهة الرخص فأكد افرام أن «صلاحية منحها تعود إلى وزارة السياحة، فيما يقتصر دور البلدية على إبداء الرأي فقط، من دون أن يعني ذلك الإلتزام به». لكن افرام يطالب بالتشدّد في تطبيق الشروط التي يجب أن يتقيّد بها أصحاب الملاهي، إن لناحية قمع الضجيج وضرورة وجود الزجاج العازل للصوت أو التقيّد بالنظام الخاص بالرصيف لجهة تأمين ممرّ للمشاة، معلناً أنه سيصدر قريباً قانوناً جديداً يمنع أصحاب الملاهي من إدخال عدد من الزبائن يفوق قدرة استيعابه.