غرق الناشطون السوريون وغيرهم أخيراً في الكثير من التفاصيل الصغيرة التي باتت تحجب الرؤية العامة، التي بدأت لأجلها الانتفاضة السورية. إذ يبدو، في أحيان كثيرة، كأنّ التفاصيل قد فاضت عن حجم المشهد العام لتحتل كامل الصدارة، مقابل ضمور ما كان بديهياً ومشرقاً واضحاً. هكذا أضحى اليوم السجال متناقضاً وحاداً، حول إسقاط النظام أم التفاوض معه، التدخل الخارجي أم الاعتماد على الذات، يوجد مسلحون أم لا يوجد، جدوى السلاح من عدمه، وحدة المعارضة أم تشرذمها، أيهما أجدى... وغيرها من التفاصيل التي لا بد من الخوض فيها، لكن ضمن إطار الانتفاضة الشامل، إذ يبدو أحياناً كأنّها تفيض لتطيح أهداف الانتفاضة ومبادئها وشعاراتها. هذا الفيضان المغرق للتفاصيل وفي التفاصيل، الذي يبدو طبيعياً للوهلة الأولى، ليس بريئاً حقيقة، إذ تعمل قوتان على جعله كذلك، بغية إغراق الانتفاضة في الفوضى وعدم الفهم، وتضييع المسار العام. القوة الأولى هي النظام، الذي لا يزال يعمل جاهداً على تشويه وجه الانتفاضة السورية، عبر حرف الأنظار إلى أنّ ما يحدث في سوريا ليس إلا عصابات مسلحة تقتل هنا وتفجر أنابيب النفط هناك، فيما يتجاهل هو وإعلامه المضلل كل التظاهرات السليمة التي لا تزال تخرج وتتمدد على كامل الأراضي السورية كل أسبوع بأكثر من سابقه، متحدية كل آلة السلطة الجهنمية وكل التهويل بالحرب الأهلية وغيرها.

القوة الثانية تتمثل في دول عربية وغربية لا ترى في الانتفاضة السورية سوى بازار لتحقيق مصالحها ومكاسبها، وبناءً عليه يغدو الاستثمار في الانتفاضة السورية بالنسبة إليها فرصة مناسبة لتحقيق مصالحها. هنا تغدو تذبذبات واشنطن بين دعم المعارضة بالسلاح أو عدم دعمها، وتصريحات كلينتون وديمبسي عن وجود القاعدة، نوعاً من هذا الاستثمار في دم الضحايا السوريين. وكذلك الأمر تغدو تصريحات موسكو بين «المصير الحزين الذي ينتظر الأسد» و«لا حل إلا بوجود الأسد»، نوعاً من الابتزاز الروسي المقابل لابتزاز الغرب للمجلس الوطني على الضفة الأخرى، بغية ابتزاز السلطة السورية لانتزاع أكبر مكاسب ممكنة، وابتزاز الغرب أيضاً من جهة أخرى. وكل ذلك يحصل على حساب الدم السوري الذي يسفك يومياً، بفعل دعم موسكو للنظام في حلّه الأمني وتأمين الغطاء له، وبفعل تقديم القوى الأخرى السلاح لبعض قوى المعارضة لجرها نحو تعقيد الحالة السورية المعقدة أصلاً لاستنزاف البلاد ككل، دولة ونظاماً، بغية توفير الفوضى التي يريد أن يستثمر فيها كل من النظام وتلك القوى الخارجية. هكذا يغدو الطرفان (النظام والقوى الخارجية بشقيها المعارض للنظام والموالي له) يعملان على تحقيق مصالح بعضهما البعض، على حساب الانتفاضة السورية، وبمساعدة بعض القوى التي تسلقت ظهر الانتفاضة أيضاً.
لكن رغم كل ما سبق، وبعيداً عن تفاصيل الحالة السورية وهوامشها التي يراد لنا أن نغرق فيها أحياناً، كي ننسى المتن الانتفاضي الذي من أجله سقط آلاف الضحايا حتى اللحظة، فإنّ ثمة حقائق هي في حدود البديهيات يتجاهلها الطرفان السابق ذكرهما، إذ يظن النظام أنّ مراوغاته وجر الناس إلى معارك جانبية لها علاقة بالسلاح والفوضى والتخويف من الحرب الأهلية (رغم خطورة الأمر فعلاً) يعنيان في ما يعنيانه، دفع الناس إلى قبول خياراته لحل الأزمة السورية. وهو الأمر الذي لا يزال النظام يعتقده واهماً، منذ بداية الانتفاضة السورية، إذ ينبغي التأكيد هنا للمرة الألف أنّ العودة إلى الوراء باتت مستحيلة نهائياً، وأنّ تجميل السلطة لنفسها ببعض الديكورات الإصلاحية التي كان خاتمتها الدستور الهزيل فعلاً، يجعلها قابلة للاستمرار هو نوع من الوهم، إذ ثمة سيرورة عربية فتحت، ولن يعود بالإمكان إغلاقها نهائياً، وليس بالإمكان احتواؤها ضمن إصلاحات هزيلة، حيث إنّ الإصلاح في زمن الانتفاضة لا يعود يجدي، وإلا لما كانت قد قامت الانتفاضة أساساً. هنا ليس ثمة خيار غير فتح باب التغيير مطلقاً على مصراعيه، بما يؤمن الانتقال إلى دولة وطنية ديموقراطية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بعيداً عن ألغام السلطة وموادها المفخخة في الدستور، لأنّها لا تفعل سوى إطالة الطريق وتأخير الخلاص الذي سيأتي دون شك مهما طال الطريق.
من جهة ثانية، الشيء نفسه يقال للقوى الخارجية التي ترى في الانتفاضة السورية مجرد بازار لحساباتها، إذ تتجاهل أنّ الشعب السوري هو صاحب السلطة العليا في أية دولة مقبلة، وأنّ مراهنة البعض على نقل سوريا من محور إلى محور، وعلى جعلها ساحة صراع لتصفية حسابات إقليمية، وذلك عبر إشاعة الفوضى وإجبار الشعب السوري على قبول خياراتهم (التي تشبه خيارات النظام من الجهة الأخرى)، هي نوع من الوهم أيضاً. ويحمّل ذلك الانتفاضة السورية أكثر من أعبائها حقيقة، يساعد على ذلك بعض المتسلقين ظهر الانتفاضة، عبر الإيحاء بأنّ سوريا حال رحيل النظام ستكون رهينة نظام إسلامي، أو ستندرج في السياق الخليجي/ الإسرائيلي/ الأميركي الذي يقف ضد مشاريع المقاومة في المنطقة. وهو واهم كذلك الأمر، إذ ستبقى سوريا رافعة المقاومة في العالم العربي، مهما حاول أولئك المتسلقون ظهر الانتفاضة أن يحرفوها عن مسارها، إرضاءً لقوى خارجية، وعلى رأسهم المجلس الوطني السوري.
إذن ثمة بديهيتان اثنتان، لن تحجبهما التفاصيل الغارقة في حمى التخويف من الفوضى والسلاح والحرب الأهلية والأسلمة والأفغنة وغيرها، دون إنكار خطر ما سبق نهائياً. الأولى: لا عودة عن الوصول إلى دولة وطنية علمانية ديموقراطية كاملة، مهما تعرجت الطرق وطالت، ومهما وضع النظام عصي إصلاح وهمي في دروبها.
الثانية: لا خروج لسوريا من محور المقاومة (رغم تذبذبات حزب الله مما يحصل في سوريا) لأنّ سوريا الحديثة تدعم المقاومة كأمل ومشروع لا كحزب، وسوريا لا معنى لها خارج محيطها العربي وخارج فلسطينها التي حملها كل سوري في داخله، مع أن تعني عروبتها فتح فضائها لكل الأقليات العرقية، وعلى رأسهم الأكراد لينالوا حقوقهم المشروعة كاملة ودون استثناء.
المعركة ضد الاستبداد لا تنفصل عن المعركة ضد أولئك الذين يرون في الانتفاضة السورية فرصة لتجريد سوريا من كرامتها وحقوقها ومحيطها العربي، وكذلك الأمر مقاومتها.
* شاعر وكاتب سوري