تفقّدوا جيوبكم

أعرف: شربل نحاس قدّم استقالته لرئيس تكتل الإصلاح والتغيير ميشال عون، برغم كل ما قيل ليل أمس عن أنه سيوقّع مرسوم بدل النقل بعد المخرج القانوني المقترح. أعرف أيضاً أن عون صرّح منذ قليل بأن مصير هذه الاستقالة لا يزال في يده، وأنها ستكون قد قُبلت عند رفعها إلى مجلس الوزراء.

أعرف أيضاً أن جلسة مجلس الوزراء غداً ستحسم هذا الموضوع، الذي يبدو أنه حُسم اليوم، لجهة تكريس «حق» أصحاب العمل في «التطنيش» على بدل النقل للعمال ذوي الوضع الاقتصادي الأشد هشاشة، أي أولئك الذين يُهددون في حال « ما عجبهم» أن «يفرجونا عرض كتافن»، وأن «الدولة»، بما هي سلطة مافيات، «ربحت». أعرف أيضاً أن رأس الناس مشغول بانتظار فرج آخر الشهر مع زودة طارت قبل أن تحط، وبالوضع العربي والدولي، وعلى الأخصّ بتطورات الوضع السوري.

ماذاً أيضاً؟ بالرغم من كل هذه المشاغل «القوية»، لكنني أعترف أن عقلي بقي مشغولاً بما انتهت إليه همروجة سائقي الفانات والسرفيسات، بعد رفعهم أجرة الراكب، والتي انطفأت كانها ما كانت، بمجرد أن «سُحب الموضوع من التداول». ففي بلادنا يُنسى الموضوع، أيّ موضوع، بمجرد أن «يُسحب من التداول»، بضمّ السين، وتجهيل الفاعل.

هكذا حاولت أن أخرِج الموضوع من رأسي بقراءة الصحف ومتابعة التلفزيونات.. عبث.

حسناً. لنراجع الأحداث: فجأة، تفتّق عقل أصحاب البوسطات والفانات عن فكرة رفع أجرة الراكب إلى ألف وخمسمئة ليرة. لحق بعض أصحاب السرفيسات بهم وطالبوا، بالطريقة ذاتها، أي عبر تبليغ الركاب لصقاً على أبواب السرفيسات، أن الأجرة ستصبح ثلاثة آلاف ليرة. فعلوا ذلك بمبادرة «ذاتية»، كما ادّعوا، ودون فتح حوار مع المسؤولين في دولة «كل مين إيدو إلو». مع لفت نظر القراء الكرام إلى أن الواو في «إلو» لا تعود بالضرورة لصاحب اليد، فمن الممكن أن يكون المقصود هو نفسه المشار إليه «بالضمة» فوق السين في عبارة «سُحب من التداول».

هكذا، دبكت بين الركاب وسائقي الفانات والسرفيسات، وهم ليسوا أصحابها في الغالبية الساحقة، بل مجرد مستأجرين. السائقين قالوا إن أصحاب فاناتهم وبوسطاتهم رفعوا إيجارهم اليومي من 50 ألف إلى 65 ألفاً. وعندما تقول لهم: لكنكم قبضتم رديّات البنزين المدعوم من الدولة، يقولون: أخذها أصحاب البوسطات ولم يعطونا شيئاً. تفاعل الموضوع. رفض الناس الأجرة الجديدة. فما كان من أصحاب الفانات والسرفيسات إلا أن قطعوا الطرقات ومنعوا السيارات الأخرى من العمل. كتبت الصحف وسائر وسائل الإعلام عن الموضوع لجهة لاقانونية ما أقدم عليه هؤلاء السائقون، سألنا نقيب السائقين العموميين عبد الأمير نجدة فاعترض على الإجراء. عقد بسام طليس، النقيب الآخر، مؤتمراً صحافياً بالمعنى ذاته. طلع وزير الأشغال والنقل غازي العريضي عابساً، على غير عادة، ليهدّد بلهجة حازمة بسحب الرخصة من السائقين الذين يتقاضون أجراً غير ذاك الذي أقرّته الدولة من الركاب، مشدداً على أن رفع الأجرة من صلاحيته هو. عال.. ثم؟ لا شيء. تقيّد السائقون بتعليمات الوزير. «ثابوا» إلى رشدهم في اليوم التالي كتلامذة غضب عليهم «حضرة الناظر» فتقيّدوا بالنظام لكي لا يُطردوا من المدرسة. التفتَ البلد الى شيء آخر في اليوم التالي. عاد الركاب لدفع ألف ليرة للفان وألفين للسرفيس.. عادي. هل انتهى الموضوع هكذا فعلاً؟

لمَ تراجع المضربون عن تحركهم، مع أن لا شيء تغيّر؟ خافوا من الوزير؟ وما هي سلطة الوزير؟ هل فعلاً يستطيع أن يسحب التراخيص من جماهير المستفيدين من «احتلال» النقل المشترك، بعد إعدام النقل العام العائد للدولة بتركه «يهرّ»؟ هو يستطيع، نظرياً بالطبع، ولكن هل «يستطيع»؟ واذا سحب التراخيص، فبأي نقل سينقل المواطنين؟ بالباصات المدفونة في مقبرة النقل المشترك الرسمي بالقرب من نهر الموت؟! وأصلاً هل هؤلاء المضربين «مقطوعين من شجرة» مافيات السلطة حتى يستفردهم الوزير بسحب التراخيص؟

وهم؟ ألم يكونوا يعلمون أنه ليس باستطاعتهم رفع أجرة النقل بدون قرار من مجلس الوزراء؟ أي من دون رضى «كراعيبهم» المعلّقين منها؟ أم أن تحركهم كان بإيعاز من تلك «الكراعيب» لجني شيء ما؟ لا شك أنه مادي وليس معنوي أو روحي! ما هو هذا «الشيء ما»؟ على ما يبدو: تجديد رديّات البنزين المدعوم للسيارات العمومية. ربما كان هذا هو الجواب. فهذه الرديّات شكّلت مورداً إضافياً لأصحاب اللوحات العمومية الذين يضعونها بالغالب في جيوبهم ولا يستفيد منها مستأجرو السرفيس أو الفان. فلمَ لا يضغطون على الدولة لتجديدها ثلاثة أشهر إضافية؟ لم يعلن أحد عن تجديد رديّات البنزين لثلاثة أشهر، فهل اتُّفق على ذلك بشكل غير رسمي؟ هل تكون هذه «الحركة» مقدمة لحركات ستتوالى فيما بعد؟

العائد مغرٍ، حسب أحد الزملاء. قال: «احسبيها: 12 تنكة ونصف في الشهر، ضرب 3 أشهر، ضرب خمسين ألف لوحة عمومية؟». ومَن يدفع هذا «الدعم» المفروض أن يدعم السائق فيرتضي الأجرة الحالية لكنه يذهب لجيوب اصحاب اللوحات؟ الجواب: كل المكلّفين، بمَن فيهم أولئك الذين امتنعوا عن دفع الأجرة المرفوعة لأنهم لا يملكونها. فالدعم تم عبر سلفة للخزينة.

هناك أيضاً أسئلة إضافية: ما هي المعايير التي تُحتسب على أساسها التعرفة؟ ما هي مكوّناتها؟ اتصلنا بوزارة النقل فأفادنا المسؤولون هناك أنهم سيقومون بالإعلان عن هذه المقوّمات قريباً، وأنه قد سبق لهم أن أعلنوا عنها في فترة سابقة.. ولكن هل من الممكن الحصول على أي شيء مكتوب نستطيع أن نلجأ إليه لقياس هذه التعرفة، أو تاريخ لنبش هذا المؤتمر الصحافي الذي سبق وأعلن عن مكوّنات التعرفة؟ نفى هؤلاء ووعدونا بالخروج إعلامياً قريباً للحديث في هذا الموضوع.

وبانتظار الإفراج إعلامياً عن هذه المعايير، وتبيُّن ما خَفي من خطوات اتُّخذت لاستتباب الأجرة.. تفقّدوا جيوبكم.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم