يختلف النسيج المجتمعي العراقي كثيراً، وفي العمق، عن نظيره الجزائري، وتفصل بينهما فروق كثيرة، رغم انتمائهما إلى وحدة حضارية وثقافية واحدة هي «بلدان الحضارة العربية الإسلامية». من تلك الفروق، يمكن أن نُذكِّر بالانسجام المجتمعي النسبي في الجزائر، مقابل حالة التنوع والتراكب والتداخل في النسيج المجتمعي العراقي. في المجتمع الجزائري، ثمة طائفة دينية واحدة سائدة، بنسبة تفوق التسعين بالمئة، هي طائفة «المسلمين السنّة على المذهب المالكي»، مع أقلية ضئيلة من الخوارج الإباضيين، وأقلية مسيحية ضئيلة أيضاً.يختلف الأمر تماماً في النسيج المجتمعي العراقي، فهو منقسم عمودياً وأفقياً: ثمة هنا، طائفة المسلمين السُنّة على المذاهب السنية الأربعة المعروفة، وإلى جانبها طائفة المسلمين الشيعة الإمامية «الإثنا عشرية». ومثلما يتوزع السُنة على قوميات مختلفة كالعرب والأكراد والتركمان، يتوزع المسلمون الشيعة على تلك القوميات ذاتها. وإلى جانب هذه الثنائية الطائفية، توجد طوائف دينية مسيحية تتوزع على أقليتين قوميتين هما الكلدان والآشوريين. مضاف إلى كلِّ ما تقدم، ثمة طوائف وأقليات صغيرة عريقة وأصيلة وجودياً، كالصابئة المندائيين واليزيديين والشبك، ومع ذلك يحتفظ المكون القومي «العربي العراقي» بأغلبية سكانية تناهز الـ 85%.
من الناحية الإثنية، يتألف المجتمع الجزائري من مكونات مختلطة، تعيش حالة متناقضة نوعياً من الاندماج الذي بدأ منذ قرون خلت، والتباعد الناشط حديثاً والقائم على التمركز حول الذات وتأكيد الهويات الأصلية باتجاه التكوّن المستقل. الحالة الإثنية الجزائرية، تتوزع على عدّة عناوين من أهمها البربر الأمازيغ، بتشكيلاتهم الإثنية المختلفة والتي تشمل طوارق الجنوب، والعرب والشاوية. في هذا المفصل، يُلاحَظ وجود نوع من التمازج والاندماج المجتمعي بين جميع المكونات إلى درجة يصعب فيها وضع حدود فاصلة واضحة بينها، وخصوصاً بين العرب والشاوية، وهو اندماج بدأ أساساً كنوع من التحالف القبلي والتزاوج الواسع النطاق بين قبائل عربية كبني هلال، وأخرى بربرية كصنهاجة وزناتة.
هذا من ناحية الفوارق المجتمعية بين البلدين، أما من ناحية المصائر والأسئلة الحضارية الراهنة التي يواجهها المجتمعان العراقي والجزائري فهي متشابهة كثيراً. إنّها الأسئلة ذاتها التي تواجه مجتمعات عربية أخرى كتونس ومصر ومجتمعات الجزيرة العربية وبلاد الشام. وهي أسئلة تلخص العديد من المشكلات السياسية والاجتماعية الحقيقية التي بدأت تتخذ أوضاعاً ملحة وعاجلة مع حركة التغيير الكبيرة التي تجتاح اليوم المنطقة في ما يسمى «الربيع العربي». بعض هذه الأسئلة والمشكلات قديم عمره قرن وأكثر، وبعضها الآخر جديد يحتفظ بحرارة الواقع الراهن. ومن ذلك مثلاً ما يتعلق بكيف ينبغي أن تكون العلاقة بين الدولة والدين والناس؟ وهل ثمة من تعارض بين الأصالة والمعاصرة؟ وهل هناك فرق بين الحزب الديني والطائفي بالضرورة، والحزب ذي التوجهات الأخلاقية الدينية، وبين الحزب القومي العنصري والحزب ذي التوجهات والمرجعية القومية؟ وأخيراً، وهذا هو موضوعنا: هل يمكن أن تتحوّل أحزاب سياسية معينة، عبر استخدام آليات العملية الديموقراطية، إلى كيانات سياسية طائفية تمزق نسيج المجتمع التعددي وتتحوّل إلى جيوش طائفية سياسية جاهزة لإنتاج الحروب الأهلية، وكيف يمكن الحيلولة دون ذلك؟
من هنا، ستكون مقاربتنا لما نعتبره الأهم عراقياً وجزائرياً في قانونَي الأحزاب في البلدين، محكومة بالأسئلة السياسية والاجتماعية المتشابهة في البلدين، مثلما هي منطلقة من الحالة الراهنة للنسيج المجتمعي في البلدين. وقبل أن نبدأ مقاربتنا، نسجل أنّنا لا ننظر إلى التجربة الجزائرية أو العراقية، باعتبارها نموذجية وأقرب إلى الكمال، على العكس من ذلك نسجل أنّ فيهما الكثير من النواقص والسلبيات، لكنّنا وجدنا في بعض مفاصلهما، وتحديداً في قانون الأحزاب الجزائري ما يصلح للتفحص والتحليل المقارِن مع تجربة مشروع قانون الأحزاب العراقي الذي لم يُشَرَّعْ حتى
الآن.
إنّ الموقف من الأحزاب السياسية، نوعها، حركتها، برامجها، تشكيلها وخلفياتها الثقافية والسياسية والولائية، يعتبر، وبحق، لُبَّ العملية الديموقراطية. لكنّنا نعلم من التجارب الواقعية حتى الآن، والتجربة العراقية تحديداً، أنّ الأحزاب التقليدية، وخاصة تلك القائمة على أساس النزوع والخلفيات الطائفية أو القومية، لا ترى في الديموقراطية إلا الجزء الإجرائي منها وهو «العملية الانتخابية». إنّ هذه الأحزاب لا تعرف ولا تفهم الديموقراطية إلا كطريقة حسابية تتوسل الإعلام والمال والولاءات القبلية والطائفية والقومية، بهدف انتزاع أكبر عدد ممكن من أصوات أبناء طائفتها أو قوميتها، لتشكِّل وتقود هي بذاتها أكبر كتلة برلمانية وتحكم باسمها.
للحد من التأثير السلبي لحركة الأحزاب السياسية على النسيج المجتمعي، ولكي لا تتحول الأحزاب السياسية والقوائم الانتخابية إلى جيوش طائفية جاهزة، فقد وضع القانون العراقي ونظيره الجزائري مجموعة من المحظورات والاشتراطات في عملية إجازة تأسيس الأحزاب.
لقد اشترط المُشَرِّع الجزائري لقيام الأحزاب السياسية، ألا تكون تلك الأحزاب قائمة على أساس «احتكار أي ثابت من ثوابت الأمة كاللغة أو الدين أو الأصل». وعلّلَ ذلك بأنّ تلك الثوابت ملك لمجموع الأمة، ولا يجوز لفريق حزبي معين أنْ يحتكرها وينطق باسمها ويدّعي تمثيلها بهدف الفوز بالسلطة. معنى ذلك عملياً، أنّ قانون الأحزاب الجزائري لا يسمح بقيام حزب ديني إسلامي يَدَّعي تمثيل الإسلام أو المسلمين ويدعو إلى قيام الدولة الدينية، ولا على أساس لغوي أو إثني يزعم تمثيل العرب أو البربر الأمازيغ، لكنّه يسمح بقيام أحزاب سياسية ذات خلفيات أخلاقية إسلامية عامة أو جمعيات ثقافية ذات طابع سياسي وخلفيات قومية أو لغوية. هذه الحالة موجودة عملياً في الجزائر والمغرب. ولذلك تلجأ الأحزاب ذات الخلفيات والتوجهات الإسلامية إلى اتخاذ أسماء غير إسلامية وعامة كالتنمية والعدالة والإصلاح والنهضة ... الخ وتحاول أن تجعل مشاريعها السياسية، إن وجدت، سياسية خالصة وبعيدة عن التبشير والخطاب الديني المباشر.
تقول المادة 42 من الدستور الجزائري: «وفي ظل احترام أحكام هذا الدستور، لا يجوز تأسيس الأحزاب السياسية على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جنسي أو مهني أو جهوي. ولا يجوز للأحزاب السياسية اللجوء إلى الدعاية الحزبية التي تقوم على العناصر المبيّنة في الفقرة السابقة». أما من الناحية الإجرائية، فالدستور الجزائري يشترط تقديم طلب التأسيس الموقّع من ثلاثة أعضاء مؤسسين، بالإضافة إلى مشروع القانون الأساسي للحزب في ثلاث نسخ، ومشروع تمهيدي للبرنامج السياسي، فضلاً عن تعهد مكتوب يوقّعه عضوان مؤسسان على الأقل عن كل ولاية منبثقة عن 25 ولاية من مجموع 48 ولاية في الجزائر، يتضمن احترام أحكام الدستور والقوانين المعمول بها. ويشترط أيضاً عقد المؤتمر التأسيسي للحزب خلال أجل أقصاه سنة واحدة ابتداءً من إشهار ترخيص الوزير المكلف بالداخلية في يوميتين إعلاميتين وطنيتين. وسنغض النظر عن التعديل الجديد الذي أُجري على القانون بهدف «اجتثاث» قيادات حركة الإنقاذ الإسلامية «الفيس» المحظورة، لكونه خارج سياق موضوعنا مع تسجيل أنّه تعديل لاديموقراطي كنظيره الاجتثاثي العراقي لأنّه، كما يرى الحقوقي الجزائري مصطفى بوشاشي بصواب، «يصادر الحقوق السياسية للمواطنين بقانون دستوري وليس بواسطة أحكام قضائية».
في المثال العراقي، نجد أنّ المادة الخامسة من مشروع قانون الأحزاب العراقي الذي قُدِّمَ للقراءة الأولى في البرلمان قبل أيام قليلة تعدل الجهة المجيزة لتأسيس الأحزاب من رئيس محكمة القضاء الإداري في وزارة العدل إلى مفوضية الانتخابات المستقلة (وهو بهذا متقدم على نظيره الجزائري الذي يجعل قرار إجازة التأسيس من اختصاص وزارة الداخلية). تقول المادة الخامسة العراقية: «أولاً: يؤسس الحزب على أساس المواطنة، وبما لا يتعارض مع أحكام الدستور. ثانياً: لا يجوز تأسيس الحزب على أساس العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التعصب الطائفي أو العرقي أو القومي». وإجرائياً، يشترط القانون العراقي في صيغته قبل التعديل الأخير، تقديم «طلب التأسيس تحريرياً إلى رئيس محكمة القضاء الإداري في بغداد مرفق به قائمة بأسماء عدد لا يقل عن ألفي عضو مؤسس مقيمين في ست محافظات عراقية، على أن لا يقل عدد المؤسسين عن مئة عضو في كل محافظة من هذه المحافظات». وتستثنى الفقرة «ب» من هذا الشرط «الأحزاب التي تمثل الأقليات».
يمكن اعتبار الاستثناء الخاص بالأقليات القومية في القانون العراقي ترخيصاً غير مباشر للسماح بتشكيل وتأسيس أحزاب قومية وطائفية للأقليات، وبالتالي لجميع المكوّنات، لأنّ كل واحدة منها أقلية بالنسبة إلى المجتمع، في حين يرفض نظيره الجزائري ذلك رفضاً قاطعاً بدليل القراءة الأولى للمادة 42 التي تحظر قيام الأحزاب الدينية والقومية واللغوية والجهوية. وبما أنّ الواقع العراقي هو كما تقدم وصفه، فإنّ تحقيق الاندماج المجتمعي ومنع تشظّي المجتمع إلى هويات طائفية وقومية متنازعة لا يكون بتحكيم المادة الخامسة العراقية، بل بتبني أو استلهام المادة الثانية والأربعين الجزائرية التي تحظر الأحزاب الدينية والعنصرية «القومية»، وتسمح بوجود الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية أو القومية ضمناً. إنّ الفرق دقيق جداً، يجب أن نعترف بذلك، بين هذين النوعين من الأحزاب السياسية وهو لن يكون واضحاً إلا على أرض الواقع العملي. وكلما نجح المشرِّعون في صياغته بعبارات سليمة وواضحة، كان ذلك أجدى وأنفع لأنّها ستخفف حتماً من حدة المآزق السياسية التي تبلغ غالباً درجة الاقتتال والحرب الأهلية. تلك المآزق الناتجة من حكم المحاصصة الطائفية في البلدان المتنوعة النسيج المجتمعي والذي يجد مبرره وأساسه في قانون أحزاب، يُشَرْعِن الطائفية السياسية عن قصد أو عن غير
قصد.
* كاتب عراقي