المسألة تحوّلت من ردة فعل عفوية إلى حملة منظَّمة تديرها مجموعة سلفيين موتورين وصلت إلى حد التهديد بالقتل. هكذا يمكن اختصار تطورات الهجمة على حمزة كاشغري (راجع المقال أدناه) بعد تغريداته على تويتر في مناسبة المولد النبوي. وقد انهالت عبارات التهديد على الكاتب السعودي، ونُشرت عناوينه وأرقام هواتفه ليعرف «المحتسبون» كيف يصلون إليه. «غرّد» حمزة بنحو أساء فيه إلى مقام النبي فعلاً، ثمّ اعترف بالإساءة، واعتذر. غير أن مجموعة من المتطرفين لم تتورّع عن اتهامه بشتم النبي، وهو ما لم يفعله. هكذا، بدأت حملة التحريض عليه عبر المواقع، وانطلقت مشاعر «الغيرة على النبي» بما يخالف خُلُق النبي. ودخل شيوخ الصحوة على الخط، فقدّم الشيخ ناصر العمر عرضاً بكائياً حرّض فيه الدولة على حمزة، فصدر أمس قرار ملكي بالقبض على الكاتب.
غضب تجاوز الحدود، وكشف الكثير من التشفّي والرغبة في الانتقام. لكن الأهم أنّ لهذا الغضب أهدافاً أكبر من القضية نفسها، ما يجعل حمزة كبش محرقة لتفاهم «الديني» مع «السياسي». يمكن مطالعة خطاب ناصر العمر وبكائياته لفهم الصورة. بكى هذا الأخير ثم تحدّث عن الفتن والقلاقل في البلدان المجاورة (يقصد الربيع العربي) ونعمة الأمن والأمان في المملكة. انتقل بعدها ليبرّر الغلو والتطرف بوجود حمزة وأمثاله الذين «يتحدثون كما يريدون».
هذا التيار يستغلّ القضية لتحقيق مكاسب سياسية، والمقايضة مع الدولة على النحو الآتي: «ساندناكم في مواجهة القلاقل والفتن وتأثيرات الربيع العربي، وقبلها عنّفنا حتى أبناءنا من الجهاديين حين وقفوا ضدكم. ونحن لا نطلب الكثير، نريد الحفاظ على المظاهر الإسلامية». ولا يعرف حرّاس المعبد مظهراً إسلامياً أهم من قمع حرية التعبير وفرض آرائهم على الحياة الاجتماعية للسعوديين باسم «محاربة الإشكالات الشرعية». وهم مستعدون للسكوت عن الفساد، والاعتقال التعسفي، والمشاكل الأخرى، فهي عندهم ليست «إشكالات شرعية».
قضية حمزة كاشغري أداة لعرض قوة هذا التيار في هذه اللحظة، وله أسباب كثيرة لفعل ذلك، منها ما هو متّصل بخوفه من الربيع العربي وتأثيراته التي تحدّ من وصايته على حريات الناس وتؤلبهم على نهجه الاستبدادي. ومنها ما له علاقة بغضب رموز هذا التيار من خسارتهم في قضية عمل المرأة في محالّ بيع الملابس النسائية الداخلية، وخوفهم من تغيير رئيس «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وما قد يجلبه من تعديلات على عملها. هذا بالإضافة إلى إثبات الذات في معركة قوية ضد الخصوم توصل رسالة مفادها أنّ الزمن هو زمنهم سياسياً ويمكنهم العودة أقوى من السابق وتعويض ما خسروه.
من خلال هذا الخطاب، يُراد إحراج السلطة السياسية ودفعها إلى منحهم مكاسب ونفوذاً أكثر، وخصوصاً حين يكون الحديث بهذه الصراحة عن احتمال ظهور إرهابيين نتيجة أفعال حمزة وأمثاله. لكن المشكلة تكمن في عجزهم عن السيطرة على كل شيء. ساحات تويتر التي تنادوا إليها للاستنكار لا يمكن أن تُحتَكر من طرف دون آخر. وقد انتهى الزمن الذي كانوا فيه يحتكرون المنابر. لقد كسرت ثورة الاتصالات الأحادية الفكرية التي أرادوها أن تسود. هرب حمزة من البلد خوفاً على نفسه وخُتم المشهد حتى الآن على سيادة التكفير المتطلع إلى مكاسب حزبية ضيقة.