تؤدي ضراوة المعارك في مناطق التوتر السورية الى سقوط عشرات الجرحى. يُعالج قسم كبير من هؤلاء في مستشفيات ميدانية، فيما يجري نقل ذوي الإصابات البالغة، عبر المعابر غير الشرعية، في الشمال والبقاع، ليخضعوا للعلاج في لبنان. يتوزع هؤلاء على ثلاثة مستشفيات في الشمال، أحدها في طرابلس مخصص للجرحى من مقاتلي «الجيش السوري الحرّ» الذي يدفع بدل إيجار طبقة كاملة منه، ويتولى الإشراف على الإجراءات الأمنية فيه.
في هذا المستشفى، التقت «الأخبار» نحو عشرة جرحى من «الجيش الحر». الطبيب السوري، الذي رافقنا، قال إنه يعمل في الأساس طبيباً بيطرياً!، وإنه قدم من السعودية «للتطوع في خدمة الثورة». يشير إلى أن النقص في المساعدات الطبية يؤدي، في كثير من الأحيان، إلى تأخير خضوع بعض المصابين للعمليات الجراحية اللازمة.
في إحدى الغرف، يستلقي جريحان على سريرين متجاورين. أحدهما مصاب برصاصة في عضوه الذكري. اخترقت الرصاصة قدمه ومحالبه قبل أن تخرج من جسده. يسأل الطبيبَ عن حقنة المورفين، فيردّ الأخير: «اصبر قليلاً يا محمد». ينفث محمد دخان سيجارته بنشوة يبدو أنها تنسيه ألمه. يقول إنه أصيب أثناء محاولته «حماية المتظاهرين من غارات الشبيحة». يصمت قليلاً ويضيف: «لم يبق لنا شيء، فلماذا نبخل بأرواحنا».
الجريح الآخر مصاب برصاصتين في مشط قدمه وساقه. يعرّف عن نفسه باسم أحمد، ويقول: «أنا جندي منشقّ عن الجيش السوري، التحقت بالجيش الحر لأحمي عرضي وأهلي». لن يتماثل للشفاء قبل أشهر، «لكنني لن أنتظر. سأحمل السلاح ما إن أتحسّن قليلاً. سأتكئ على عكاز بيد وأحمل الروسية (الكلاشنيكوف) باليد الأخرى». ويضيف: «خلقنا للموت، وسنموت في سبيل الله. عاهدنا رب العالمين على أننا سنقاتل حتى الشهادة».
لا يعلم المصابان كيف وصلا إلى لبنان، وأي طرقات سلكها عناصر «الجيش الحر» لنقلهما الى المستشفى، حالهما كحال كثيرين من المصابين في بقية الغرف.
خارج الغرفة، يقف خالد الذي يصفه الطبيب بـ«الملاك الحارس» لبعض الجرحى. إذ إنه تولى نقل معظم الجرحى الموجودين في هذا المستشفى. يقول خالد: «قبل الثورة» كان عامل بناء، وإنه انضم إلى مجموعة مهمتها نقل الجرحى عبر الحدود غير الشرعية. ويضيف: «في كل مرة أقطع الحدود لنقل جريح، أودّع زوجتي لأني أشعر بأنني قد لا أعود». ويوضح أنه يستخدم في مهماته الدواب والدراجات النارية، «وأحياناً ظهورنا»، مشيراً إلى أن «عشرات الجرحى» توفّوا بين يديه أثناء محاولة العبور بهم الى الأراضي اللبنانية.
نغادر المستشفى إلى أحد «المنازل الآمنة» في طرابلس. في الطبقة الخامسة من المبنى، يستقبلنا عشرة شبان سوريين، اثنان منهم لا يزالان يخضعان للعلاج الفيزيائي جراء إصابتهما، يقول أحدهما إنه منشق عن الفرقة 18 مدرعات. بين الموجودين، أيضاً، الطبيب السوري م. الذي كان يعمل في مستشفى ميداني في حمص قبل قدومه إلى لبنان، حيث يشرف على معالجة العسكريين الجرحى. يقول إن المستشفى الميداني يقدم الإسعافات الأولية فقط، ولا يمكنه معالجة الإصابات التي تستهدف الرأس والظهر والحالات الحرجة التي تستدعي عمليات جراحية، وهذه يتم نقلها إلى لبنان، مشيراً الى أن «نحو 10 جرحى فارقوا الحياة أثناء نقلهم إلى الأراضي اللبنانية. إذ إن الرحلة إلى لبنان طويلة». ويؤكد أن «جريحين على الأقل» يدخلان يومياً إلى لبنان، لافتاً إلى أن هناك «غض نظر» من استخبارات الجيش على تحركهم في الشمال، ومثمّناً «الاحتضان الشعبي الذي يوفّره الأهالي لنا».

في المنزل، نلتقي جنوداً من نوع آخر. يقول هؤلاء إنهم «اللواء الخفي» في «الجيش السوري الحر»، ويطلقون على أنفسهم تسمية الجنود الإلكترونيين. يكشف أحدهم، محمد، أنه ناشط سياسي وأستاذ في مادة التاريخ، كان يتولى التنسيق مع وسائل الإعلام لنقل صور ما يدور في مدينة بانياس، وأنه اعتُقل مع عائلته خلال حملات المداهمة التي نفّذتها قوات الأمن، وتعرّض للتعذيب قبل أن يُخلى سبيله بعد عشرة أيام. يشدّد على «وطنية الثورة»، نافياً ما يُلصق بها من أوصاف «إسلامية» و«طائفية».
لدى «الجنود الإلكترونيين» مخزون لا ينضب من صور وأفلام فيديو لمواجهات وجثث قتلى وجرحى يقولون إنهم سقطوا على أيدي الجيش السوري، يتولّون إرسال مقاطع منها إلى المحطات التلفزيونية، أو يُحمّلونها على المواقع الإلكترونية.
في «منزل آمن» آخر، في وادي خالد هذه المرة، نلتقي «جندياً إلكترونياً» لبنانياً متزوّجاً بسيدة سورية. يقول إنه «المنسّق بين الجنود الإلكترونيين»، وإن مهمته هي توزيع الكاميرات على الجنود الداخلين إلى سوريا، وإعادة جمع بطاقات الذاكرة منهم لدى عودتهم. يفصّل الشاب الثلاثيني آلية العمل بثلاث خطوات: «أُرسل الكاميرات وأستعيد اليو أس بي التي تحتوي على الصور، ثم أضعها على الكمبيوتر وأنقلها الى محطة تلفزيونية لتعرضها للعالم». نوع الكاميرا الرائجة هي «FLIP». يقول إن الهدف «عرض أكبر كمية من الصور ليعلم العالم كله ما يجري في سوريا»، ويؤكد أن هناك صوراً لم تعرض بعد.
كيف يبرر تدخّله في شؤون دولة أخرى وشعب آخر؟ يجيب الشاب: «أنا لبناني، لكن دمي مع الشعب الذي يقتل. أنا ناشط مع الثورة السورية. ومستعد لتجنيد كل أقاربي لخدمة هذه الثورة. لا أشعر بعد بأني فعلت شيئاً، وأريد أن أقدم المزيد». وقبل أن ينهي حديثه، يكشف أن جزءاً كبيراً من «أفلام الفيديو اللي عم تشوفن على الجزيرة أو الإنترنت من عندي».






البيت الآمن

ينتقل معظم جرحى الجيش السوري الحر، الذين أنهوا علاجهم في مستشفيات لبنان، إلى منازل مستأجرة يُطلقون عليها تسمية «البيت الآمن». تتوزع هذه المنازل بين طرابلس ومناطق الشمال، وسط تجمعات سكنية. يبعد الواحد عن الآخر مسافة ليست قصيرة. وتجد في كل منزل قرابة عشرة أشخاص. المنازل لا تؤوي جرحى فحسب، بل هناك نشطاء سوريون فارّون من سوريا يشاركون الجرحى السكن. أثاث المنزل عبارة عن «حصيرة» وتلفزيون صغير وفراش نوم لكل شخص. إضافة إلى كومبيوتر محمول بحوزة كل فرد من أفراد المجموعة. في هذه المنازل، يخضع الجرحى للعلاج الفيزيائي، ويتحوّلون بمعظمهم إلى نشطاء سياسيين. يخابرون القنوات الفضائية ويدلون بالتصريحات، تحت مسمى «ناشط سياسي». يشاركون في التحليلات السياسية ويُعطون أرقاماً ومعلومات عن الجرحى والقتلى الذين يسقطون. أما «الجنود الإلكترونيون»، فيتولون نشر الأخبار الواردة من الداخل السوري على المواقع الاجتماعية، ويقومون بتحميل الصور والمقاطع المصورة على شبكة الإنترنت. وهؤلاء على تواصل دائم مع أقاربهم ومواطنيهم بواسطة الهواتف الخلوية العادية. تجدر الإشارة إلى أن تسمية «البيت الآمن» يُطلقها كل من أجهزة الاستخبارات والتنظيمات الإسلامية على المنازل التي يتخفى فيها عناصرها.



الكلام عن الدعم «نصفه صحيح»

يذكر «أبو سامر»، مسؤول مجموعة نقل الجرحى بين سوريا ولبنان، لـ«الأخبار» أن هناك نحو 30 جريحاً في المستشفى ينقصهم العديد من الاحتياجات. فـ«الدعم المقدّم يكاد لا يُذكر»، كما أن «تكلفة ما بعد الاستشفاء عالية جداً». ويشير إلى أن هناك مشكلة أدوية تحول دون إجراء عشرات العمليات. يستنكر «عدم تعاون الدولة اللبنانية الشقيقة، التي وقفنا إلى جانبها في حرب تموز». فالدولة اللبنانية «لم تعترف بنا كلاجئين. ولم يعطونا حتى حق اللاجئ». يضيف: «نريد فقط بطاقة تسهيل مرور». ويقول: «في أي لحظة يمكن أن اختطف أو أتعرض للتصفية»، مضيفاً «ارحمونا. خلّونا نحس أننا في حماية الدولة اللبنانية مش بكابوس أحزاب موالية لسوريا». وعن الكلام عن الدعم، يرد بأن «نصفه صحيح فقط». يؤكد الأربعيني السوري أن «الشارع الشمالي متعاطف معنا والجمعيات تقدم، لكن ذلك وحده لا يمكن أن يكفي». ويسأل: «عندما ينهي الجريح علاجه داخل المستشفى، أليس بحاجة إلى منزل يأوي إليه؟». ويقول: «لا يمكننا أن ننكر موقف تيار المستقبل، لكن بعض المنتفعين والانتهازيين يسيئون أحياناً». وللدلالة على سوء الوضع يقول أبو سامر: «أنا أُفضل الموت في جبال سوريا بدلاً من الوضع المأسوي الذي نعانيه»، مناشداً المغتربين السوريين تقديم ما أمكنهم من دعم ومساعدة «لأننا ماضون في الثورة حتى النهاية»، إذ إن «أنصاف الثورات مقتل للرجال».