«العقد المقبل سيكون مرحلة انتصاراتنا الساطعة ونجاحاتنا المشتركة، وأنا واثق من أنّ ذلك سيحصل». بهذه الكلمات، اختار فلاديمير بوتين أن يختم أطول خطاب رئاسي له، أمام الجمعية الاتحادية، تطرق خلاله إلى أدقّ التفاصيل المرتبطة بإنجازات الولاية الرئاسية الثالثة، وطموحات الولاية الرئاسية الرابعة وتحدّياتها، والتي اختزلتها عبارة «روسيا المستقبل»، التي تردّدت كثيراً على لسان سيّد الكرملين.
الخطاب الرئاسي، الذي اختير توقيته بدقّة، قبل 18 يوماً من الموعد الرسمي للانتخابات الروسية، شكّل برنامج عمل للسنوات المقبلة، التي تتخطى السنوات الستّ للولاية الرابعة، والذي حرص بوتين على أن يجعله استراتيجياً، غير مرتبطٍ برئيس روسي بعينه، إن في منحاه الاقتصادي الذي ركّز على ضرورة الاستمرار في تحقيق النمو في سياق النسخة الروسية لـ«اقتصاد السوق»، أو في جوانبه الاجتماعية، المرتكزة على النمو الديموغرافي وحماية القيم العائلية، أو في الجوانب الأمنية المتمثلة في تقديم أحدث نسخ من منظومات الصواريخ، في مواجهة التهديدات «الأطلسية».
في العموم، يمكن وصف خطاب بوتين بـ«التاريخي»، ليس بسبب كسره الرقم القياسي للخطابات الرئاسية، باستغراقه نحو ساعتين، قسّمت بالتساوي بين السياسات الداخلية والسياسات الأمنية والخارجية، ولا في فرادته الشكلية، من خلال اعتماد الرسوم البيانية والوسائط البصرية، وإنما في كونه شكّل من الناحية العملية، البرنامج الفعلي لبرنامج «إعادة بناء الدولة»، الذي اقتحم به ضابط الاستخبارات السابق المشهد السياسي الروسي والدولي، في مطلع «الألفية الثالثة».
ولعلّ فهم «تاريخية» الخطاب «البوتيني» أمس، لا يكتمل، قبل مقارنته بخطابات الولايات الرئاسية الثلاث. أوّل تلك الخطابات، كان قبيل انتخابات عام 2000، التي فاز بها بوتين بنسبة تأييد بلغت 52.9 في المئة. في تلك الانتخابات، لم يكن بوتين قد أمضى في الحكم، بصفة رئيس مؤقت، سوى بضعة أشهر، كانت كفيلة لأن يجد فيه الروس «مخلّصاً» قادراً على انتشالهم من العشرية «اليلتسينية» السوداء، بما رافقها من انهيار على المستوى الاقتصادي، وبالتالي تراجع المكانة الدولية لروسيا في العالم، غداة عقد على انهيار الاتحاد السوفياتي، وقلق، يصل إلى حالة الهلع، على أمن روسيا نفسها، بعدما طاولت شظايا الحرب الشيشانية المدن الروسية، وصارت المباني السكنية والتجارية هدفاً للتفجيرات الإرهابية.

عكس إدراكاً عميقاً
لمعوّقات الولاية الرئاسية
الرابعة وتحدّياتها

يومها، قدّم بوتين ما يشبه البرنامج الانتخابي، الذي كان عبارة عن رسالة إلى الشعب الروسي، بعنوان «روسيا في مطلع الألفية الثالثة»، تضمنت تصوّرات الرئيس الجديد حول الأسئلة الأكثر إلحاحاً، التي كانت تواجه المجتمع الروسي في تلك الفترة، بدءاً من سبل التغلّب على «الانقسام الأيديولوجي» بين الشيوعية والرأسمالية، و«توحيد الشعب» لتجاوز إرهاصات زلزال العصر، وصولاً إلى الخطوط العامة للتنمية الاقتصادية ــ الاجتماعية، من خلال تقويم مكامن الخلل في «اقتصاد السوق»، والتي تجلّت في أسوأ ممارسات الفساد والاحتكار من قبل «الأوليغارشية» النافذة.
بحلول عام 2004، كانت معظم تلك التصوّرات قد سلكت طريق التنفيذ، برغم بعض الثغرات، التي لم تكن لتؤثر على شعبية الرئيس الثاني لروسيا الاتحادية، وخصوصاً بعدما تلمّس الروس تحسّناً ملحوظاً، على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، مقارنة بما آلت إليه الحال في عهد بوريس يلتسين، مضافاً إليه أمناً اجتماعياً وسياسياً، تبدّى خصوصاً في الانتصار على الإرهاب في جمهورية الشيشان.
وكما الحال، في انتخابات عام 2000، لم يقدّم بوتين في انتخابات عام 2004، التي فاز بها بنسبة تأييد بلغت 71.9 في المئة، برنامجاً انتخابياً مباشراً، فاقتصر الأمر على خطابات متفرّقة، ومؤتمرات صحافية سنوية موسّعة، باتت تقليداً رئاسياً منذ عام 2001، لكنّ الخطوط العريضة للبرنامج الرئاسي تمحورت حول عنوان جامع هو «الدولة القوية»، بعد تجاوز هدف «المجتمع الموحّد»، بما تتطلبه تلك «الدولة» من إجراءات إصلاحية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والقيام بالأدوار التي تليق بها على مسرح السياسة الدولية، لجهة مواجهة التحدّيات العسكرية، في ظل تنامي الطموحات «الأطلسية» التوسعية.
أمّا الولاية الثالثة، أي الحالية، فقد مهّد بوتين لبرنامجها خلال فترة تبادل الرئاستين، مع صديقه الوثيق ديمتري ميدفيديف (2008 - 2012)، حين تولى رئاسة الحكومة لأربعة أعوام، قبل أن يُعاد انتخابه رئيساً للبلاد، بنسبة تأييد بلغت 63.60 في المئة، والتي اتسمت بعملية تحديث كبيرة، على المستويين الاقتصادي والاجتماعي في الداخل، وتكريس العودة العملية لروسيا على المسرح الدولي، من خلال خطوات «مفاجئة» كان أبرزها الحرب مع جورجيا ــ ومن خلفها «الأطلسي» ــ في عام 2008.
وقياساً إلى الخطابات/ البرامج الرئاسية السابقة، يمكن القول إن ما قدّمه بوتين، أمس، عكس ثقة كبيرة بالقدرات التي يمكن أن تجعل «روسيا المستقبل» تسلك طريق «الانتصارات» و«الإنجازات»، وإدراكاً عميقاً للمعوقات والتحدّيات، التي ينبغي التصدّي لها، خلال الولاية الرئاسية الرابعة.
انطلاقاً من ذلك، خصص بوتين ساعة وعشر دقائق، من فترة الخطاب الذي استغرق ساعتين، للحديث عن الخطة الشاملة، لتطوير الاقتصاد والمجتمع، إذ أشار إلى «أننا حققنا التطوّر الكبير في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وحافظنا على وحدة الشعب، وضمنّا الاستقرار في كل مجالات الحياة، وهذا أمر بالغ الأهمية في دولة متعددة القوميات والثقافات»، مشدداً في الوقت ذاته على أن «الاستقرار يبقى الأساس، لكنه ليس وحده الضامن للتطوّر والتقدّم»، إذ ثمة «مشاكل أخرى عديدة ينبغي إيجاد الحلول لها».
وأكد بوتين أن «روسيا جاهزة دوماً للتطوّر والتقدّم»، لكنه نبّه إلى أن ذلك يبقى مرتبطاً بـ«السعي الدؤوب لمواكبة التطوّر التقني الهائل» في العالم، محذراً من أنّ «التأخر في مجال التكنولوجيا يشكل أبرز تهديد وهو عدونا الأول».

وأضاف «نحن مستعدّون للتصدي لكل ذلك، وتحقيق القفزة القادمة، وهو ما تأكد من خلال النتائج التي حققناها معاً لجهة تماسك المجتمع الروسي»، مشدداً في الوقت ذاته على أن «التطور بشكل ديناميكي يتطلب توسيع نطاق الحريّة في كل المجالات، ولا سيما على مستوى المؤسسات الديموقراطية، والإدارات المحلية، والمحاكم... وضرورة الانفتاح على كل المبادرات».
وأكد بوتين أن «رفاهية المواطنين هي الأولوية والعامل الرئيسي في تطوّر روسيا». ولفت في هذا الإطار، إلى «ضرورة أن تثبت روسيا مكانتها ضمن الاقتصادات الخمسة الكبرى عالمياً، وأن تحقق زيادة في الناتج الداخلي الإجمالي بمعدّل الضعف ونصف الضعف في منتصف العقد المقبل». وأضاف «يجب أن نحدد مستقبلنا بأنفسنا»، معتبراً أن «العامل الأساس للتنمية هو معيشة جيدة للناس، والاكتفاء الذاتي للأسر». وتعهد بوتين بخفض مستوى الفقر بمعدّل النصف خلال السنوات الست المقبلة. وأشار إلى أنه «خلال عام 2000، كان عدد السكان الذين يعيشون دون خط الفقر 42 مليوناً، أي ما يعادل 30 في المئة، وبحلول عام 2012، تمكنّا من تقليص النسبة إلى 10 في المئة. ولكن بسبب الأزمة الاقتصادية، ارتفع العدد قليلاً ليصل إلى 10 ملايين»، لافتاً إلى أن العمل جارٍ على رفع الحد الأدنى للأجور بحلول أيار المقبل، وهو ما سيغيّر معيشة أربعة ملايين روسي، لكنه شدّد على أن ذلك «لا يقدّم حلّاً جذرياً»، مشيراً في المقابل إلى أن الحل يكون بإيجاد المزيد من فرص العمل.

فهم «تاريخية» الخطاب
لا يكتمل، قبل مقارنته
بخطابات الولايات الثلاث

وأشار الرئيس الروسي إلى أنّ بلاده «تمكنت من إحداث تغيير جذري في ما يخص الوضع الديموغرافي، حيث ارتفع متوسط العمر من 65 عاماً سنة 2000، إلى 73 عاماً سنة 2017، لكنه يجب أن يصل إلى أكثر من 80 عاماً، بحلول نهاية العشرينيات من القرن الحادي والعشرين»، لافتاً إلى ضرورة «مضاعفة النفقات على الرعاية الصحية في الفترة الممتدة بين عامي 2019 و2024، لتصل إلى خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي».
وأكد على ضرورة « الارتقاء إلى مستوى جديد نوعياً في مجال الأبحاث العلمية وجعل البنية التحتية للأبحاث من بين الأقوى والأكثر فاعلية في العالم». كما تطرّق إلى أهم المشاريع المرتقبة خلال العقد المقبل، والتي تراوحت بين تطوير البنية التحتية في الاتصالات والمعلوماتية، والطاقة الكهربائية، والطرقات العامة، والسكك الحديد، والمطارات، والمنشآت اللوجستية الداعمة للتطوّر الاقتصادي، ولا سيما في ما يتعلق بالإنتاج الزراعي والصناعي... إلى جانب زيادة المساحات السكنية من 80 مليوناً إلى 120 مليون متر مربّع سنوياً، وتقليص الفائدة على قروض السكن، بما يمكّن من تأمين المنازل لخمسة ملايين عائلة سنوياً.
ودعا بوتين وزارة الداخلية الروسية الى التحقيق في «الضغوط التي تفرض على رواد الأعمال» من قبل السلطات العامة، لافتاً إلى أن «الاضطهاد غير المبرر لرجال الأعمال من قبل جهات؛ من بينها الأجهزة الأمنية، غير مقبول مطلقاً... لأنه يقوّض ثقة الناس في القانون والعدالة». وأكد أنّ الدولة الروسية «ستدعم قطاع الأعمال الروسي»، لافتاً إلى أن حصتها في الاقتصاد «يجب أن تقل تدريجياً».
وفي ما يتعلق بالتسليح، قال إنّ «العملية في سوريا أظهرت زيادة قدرات القوات المسلحة الروسية». وأشار إلى اعتماد القوات الروسية أكثر من 300 نموذج جديد من المعدات العسكرية خلال السنوات الست الماضية، لافتاً إلى زيادة حصة الأسلحة الحديثة في تسليح القوات الروسية بـ3.7 أضعاف. وفي معرض حديثه عن المنظومات العسكرية الحديثة، ومن بينها صاروخ «سارمات»، حذر من أن «أي اعتداء على روسيا وحلفائها، سيعتبر هجوماً نووياً، وبالتالي سيكون الرد فورياً»، مشدداً على أن «مبادئ الجيش الروسي لم تتغير» في هذا الإطار.
وبرغم ذلك، شدد على «أننا نحمي مصالحنا، ونحترم مصالح الدول الأخرى، ونعتمد على القوانين والمواثيق الدولية، وهذه الأساليب تسمح لنا بإقامة علاقات طيبة، مع غالبية دول العالم، كالعلاقات الاستراتيجية بين روسيا والصين والهند، وتطوّر العلاقات مع الكثير من الشركاء في العالم»، مؤكداً أن روسيا «ترغب في تطوير التعاون مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأن تكون لدى شركائنا العقلانية باتجاه التعاون المتكافئ والتصدّي للتحديات المشتركة، وبناء مستقبل العالم المترابط والمتكامل».