تونس ــ الأخبارقبل أسابيع، زارت شخصية تونسية، بيروت. على هامش الزيارة، وأثناء إحدى سهرات المدينة، أحبّ الزائر استذكار صديق راحل، فطلب أغنيةً كانت محببة إليهما... «يا اسكندرية بحرك عجايب» للشيخ إمام، التي تقول في ما تقول: «أغسل هدومي، وأنشر همومي... على شمسة طالعة وأنا فيها دايب... كأني فلاح من جيش عرابي... كأني نسمة فوق الروابي ملبحر جاية تغرق في سحرك... كأنّي كلمة من عقل بيرم... كأني غنوة من قلب سيّد... كأني جوا المظاهرة طالب».

أغنية «معلَم» عن الاسكندرية، في بيروت، والذكرى تونسية... هكذا، ومن دون مزيد من الشرح والسرد، خَطَرَ لأحد الجالسين، وهو «من عُشّاق تونس» كما يقول، ابتكار شخصية تُدعى «وِلد البْلاد» (عبارة من العامية التونسية، وتعني ابن البلاد)، هدفها الحديث أسبوعياً، عن تونس، على صفحات «الأخبار»... تونس، لأنّها أولاً وأخيراً، تلك البلاد التي يحقُّ لشبابها الاقتباس من بودلير، والقول: «عَجَنتُ الطِّينَ وَصَنَعتُ مِنهُ الذَّهَب»... بعد سنوات «البوليس» الطويلة.
أدناه، مقالة عن تجوال «وِلد البلاد»، الأوّل


لم يعد الشارع الكبير في العاصمة التونسية، شارع الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، شبيهاً بما كان عليه أيام الثورة، ولا بما كان عليه قبل اندلاع الأحداث التي أنهت حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، قبل سبع سنوات. الأسلاك الشائكة والحواجز الأمنية والنقاط العسكرية التهمت نصف مساحته، وصار السعي في الشارع معاناةً بعدما كان فسحةً وتجوالاً.
يمكن لأي مطلع على صور قديمة للشارع أن يُدرك أنه كان من أجمل شوارع شمال أفريقيا أواسط القرن الماضي، وإلى حدود الثمانينيات مع بداية «عصر الانفتاح الاقتصادي».ولكنه أصبح اليوم مشوّهاً، تختلط فيه البنايات البلورية وجدران السيراميك المستحدثة بالمباني القديمة، الباريسية الطابع، التي لا تزال تُكابد للحفاظ على هوية الشارع المميزة والمهددة بالاندثار. (إلى حد الآن، تصطدمُ «حضارة البنايات المستحدثة» بمعالم تاريخية تُحافظ على موقعها وتمنحُ شارع الحبيب بورقيبة رونقاً خاصاً. المعلم الأول هو المسرح البلدي الذي افتتح عام 1902 وصممه المعماري جان إيميل رسبلندي، وقد كان «خاصاً» بالجاليات الأجنبية و«خواجات تونس» قبل أن يتحوّل بعد الاستقلال إلى معلم فني عريق يستقطب التونسيين منذ بداية الستينيات. من معالم الشارع أيضاً كاتدرائية مدينة تونس على الجهة المقابلة للسفارة الفرنسية التي تم تشييدها في 1881 تزامناً مع احتلال تونس من قبل فرنسا، وهي كنيسة للروم الكاثوليك تحمل اسم القديس فانسان دي بول Vincent de paul، «يُطلُّ الرب» من فوق مدخلها بشموخ).
لم تكن «بنايات الحضارة المستحدثة» وحدها السبب في تشويه «شارع الثورة»، بل لحكومات ما بعد الثورة كذلك دور كبير باعتبار أنّها أذنت بأن يتحوّل الشارع من قلب نابض للعاصمة التونسية وقبلة رئيسة للتونسيين والسياح ومكان للترفيه، إلى ما يشبه ثكنة أمنية تحضُر وسطها، وبكثرة، سيارات الأمن ومدرعات الجيش التي تحمي بعض «المؤسسات الحساسة» الموجودة في الشارع. فمنذ مغادرة شارع فرنسا، وأقواس باب البحر والدخول إلى شارع الحبيب بورقيبة، تنتصب نقاط عسكرية يرابط خلفها جنود الجيش التونسي، وتحيط الأسلاك الشائكة بمبنى السفارة الفرنسية (أوّل بناية انتصبت في الشارع سنة 1861). ومنذ الثورة، أغلقت السلطات التونسية ثلاثة شوارع محيطة بالسفارة، ما أدى إلى شللها تماماً وسط اختناق مروري حاد بسبب ذلك.
يخالُ إلى كل من يمرّ أمام السفارة، أنّه يتجوّل في بؤرة من بؤر القتال وليس في العاصمة التونسية «الآمنة»؛ جنود وعناصر شرطة، أصابعهم على زناد بنادقهم النارية الموجهة نحو المارة، يقفون خلف أكياس الرمل المغلّفة بقماش أخضر عسكري كأنهم مرابطون في الجبهة. لم يكن ذلك تحسباً لهجوم إرهابي أو لحماية حدود البلاد، وإنّما كان حماية للسفارة الفرنسية (برغم كلّ ما تمثله فرنسا بالنسبة إلى التونسيين من ماض استعماري وتبعية اقتصادية وسياسية).
مباشرةً بعد تجاوز الحواجز والأسلاك الشائكة المحيطة بالسفارة، يضطر المترجل في الشارع إلى مراوغة سيارات الشرطة ومدرعات مكافحة الشغب التي تربض على طول الرصيف الممتد من تمثال العلّامة ابن خلدون إلى تمثال الزعيم الحبيب بورقيبة حيث «ساحة 14 جانفي» (تُعرف أيضاً بـ"المنقالة"، نظراً إلى الساعة الكبيرة التي تتوسطها). وللأسف، لن يتمكن المتجوّل في الشارع من الوقوف أمام وزارة الداخلية واستحضار يوم هتف التونسيون «ارحل dégage» في وجه الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، إذ بات ذلك المكان أيضاً، يحتمي بالأسلاك الشائكة التي تمتد على طول عشرات الأمتار وتمنع المترجلين وحتى السيارات من التجول؛ مشهد بائس حزين ومثير للإحباط.
لكنْ لعلّ المفارقة هنا تكمنُ في أنّه منذ الثورة التونسية تحوّل هذا «الشارع الكبير» المخنوق بيومياته «الأمنية»، إلى رمز للحرية في البلاد: أصبح قبلةً رئيسةً لحرية التعبير والتظاهر عبر المسيرات والوقفات الاحتجاجية التي تُنظِّمُها الأحزاب والمنظمات والحركات الشبابية، فيما مثّلت هذه الحركية السياسية والمدنية و«الثورية» في ما بعد، عنصراً مقاوماً لامتداد الأسلاك الشائكة وجحافل الشرطة التي تكافح لخنق ما تبقى من الشارع. أهمّ تحرك احتجاجي شبابي ضد منظومة حكم ما بعد الثورة (حملة «مانيش مسامح» ضد قانون المصالحة مع رجال بن علي)، انطلق من شارع الحبيب بورقيبة، وكانت تظاهراته جديدة وفريدة من حيث التنظيم والشكل والشعارات، وأجبرت النظام على التراجع في عدة مناسبات، وذلك في مشاهد جعلت الشارع يحتضن لمرة أولى مزيجاً متميزاً من الشعارات السياسية وأغاني الجماهير الرياضية و«بذاءة» اللهجة العامية المحلية.
في إطار «العمل المقاوم» نفسه، انتشرت الفرق الموسيقية الشبابية الهاوية (موسيقى underground) على طول الشارع الكبير: غالباً ما تتجمع حولها فئات من التونسيين للاستمتاع بموسيقى وأغاني الثورة والوطن والحب، وكعادتها كانت البداية بمواجهة بين رجال الشرطة وشبان بتسريحات شعر فريدة وملابس مزركشة لا يحملون سوى آلات العزف. وفي النهاية، انتصرت إرادة الشُبان على قهر الدولة.
ثمة من يرى أنّ تعاقُب الحقبات التاريخية والسياسية لم يمحُ نهائياً مكوّنات هوية الشارع، وبخاصة لناحية «الطابع الباريسي»: تمتد على طوله أشجار كثيفة شبيهة بشارع الشانزيليزي الباريسي، وخلفها مطاعم (الوجبات السريعة) والمقاهي ومحال الماركات العالمية وبعض الفنادق والمصارف. قد يطول نقاش النقطة الأخيرة، لكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ من بين ما يصمدُ في هذا الشارع ــ الرمز، «حانة باريس» الكبيرة، التي يُحيط بها عدد من الشوارع الأخرى، أهمها شارع باريس وشارع فرنسا ونهج مرسيليا الذي تزدحم فيه أعرق حانات العاصمة... والتي تُعدّ آخر قلاع المقاومة في قلب هذه المدينة.