للاحتجاجات الشعبية الأخيرة التي جرت في إيران أسباب داخلية أكيدة استفاض الكثيرون في شرحها. لكننا شهدنا منذ بداية هذه الاحتجاجات مسعىً أميركياً ــ إسرائيلياً ــ سعودياً لتوظيفها في إطار استراتيجية مشتركة ومعلنة تهدف إلى زعزعة استقرار نظام الجمهورية الإسلامية وإضعافه تمهيداً لإسقاطه إن كان الأمر متاحاً. وقد تميّزت مواقف بقية دول العالم شكلاً ومضموناً عن تلك الصادرة عن المحور الثلاثي المشار إليه، بما فيها مواقف الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة.
من غير المبالغة اعتبار أن الخلفيات والحسابات إياها، الأيديولوجية والسياسية/ الانتخابية، التي حكمت موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب من القدس تحكم موقفه الحالي من إيران. صحيح أنّ «النواة العسكرية» في فريقه، الأكثر تمثيلاً للدولة العميقة، أي وزير الدفاع جيمس ماتيس وجون كيللي كبير موظفي البيت الأبيض ومستشار الأمن القومي هربرت ريموند ماكماستر، حاقدة على إيران لأسباب تبدو أميركية «مباشرة» مرتبطة بالاتهامات الموجهة إليها بدعم مجموعات المقاومة العراقية التي قاتلت قوات الاحتلال الأميركي في هذا البلد وبالمشاركة بالهجمات التي وقعت ضد القوات والمصالح الأميركية في لبنان في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي. أما ترامب، وللخلفيات المذكورة سلفاً، فلديه سبب إضافي، هو الرغبة بالتماهي تماماً مع الموقف الإسرائيلي من إيران.
بالنسبة إلى إسرائيل، فإن إيران آخر دولة في الإقليم وفي العالم، معنية ومشاركة بفعالية في الصراع معها، ترفض مبدئياً وعقائدياً الاعتراف بحقها في الوجود تحت أي ظرف من الظروف. هناك بالطبع، في الوطن العربي والعالم، أحزاب وحركات كثيرة، وبعضها لديه قواعد جماهيرية واسعة، ترفض الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني. لكن إيران هي الدولة الوحيدة في العالم التي تنفرد بهذا الموقف. علاقات إسرائيل بأطراف النظام الدولي متفاوتة، بينها وبين الولايات المتحدة تحالف عضوي منذ أكثر من خمسة عقود. العلاقات الأوروبية ــ الإسرائيلية تطور باطراد في المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية/ العسكرية على الرغم من بعض الخلافات السياسية أحياناً. وقد تطورت أيضاً علاقاتها مع روسيا والصين والهند كثيراً في العقدين الماضيين. دولتان عربيتان اعترفتا بإسرائيل مقابل اتفاقيات سلام، وكذلك هو حال السلطة الفلسطينية. بقية الدول العربية، الموافقة على المبادرة العربية للسلام، مستعدة للاعتراف بها على قاعدة تسوية مستندة إلى مبدأ الأرض مقابل السلام. والحقيقة أن بعضها الآن بات متحالفاً معها ضد «التهديد الإيراني». حققت إسرائيل اختراقات كبيرة في دول أفريقية أيضاً. الاستثناء الوحيد كان في أميركا اللاتينية، حيث قامت دول كفنزويلا وبوليفيا انطلاقاً من مواقف مبدئية بقطع العلاقات الدبلوماسية معها.
ترجم موقف إيران، كما يعلن جميع قادة المقاومة في لبنان وفلسطين، في الدعم النوعي والمستمر لها على مدى أكثر من ثلاثة عقود. وقد سمح دعم إيران لهذه الحركات بالصمود في مواجهة مديدة وبالغة الصعوبة مع عدو يحظى بدعم من أعتى القوى في العالم وحتى بتحقيق انتصارات من جهة. هو مكّن إيران من جهة أخرى بالتحول إلى قوة إقليمية كسرت الحصار الذي ضرب عليها منذ انتصار الثورة، بسبب مشروعها الاستقلالي المناهض للهيمنة الأميركية، وأفشلت استراتيجية الاحتواء التي حاولت الولايات المتحدة وحلفاؤها فرضها عليها في ما بعد. فالموقف المبدئي من القضية الفلسطينية عاد على إيران بفوائد استراتيجية كبرى بفضل تحالفها مع حركات شعبية وازنة أثبتت بعد سلسلة حروب ومواجهات دامية أنها «استثمار مجدٍ» أدى إلى تعديلات حقيقية في موازين القوى الإقليمية. لولا شبكة التحالفات الإقليمية، وأبرزها مع حركات المقاومة، لما كانت الإدارة الأميركية أيام بوش الابن مثلاً لتتردد في ضرب إيران بسبب مشروعها النووي السلمي أو مشروعها الباليستي أو مشاريع تطوير قاعدتها الصناعية والعلمية والتكنولوجية. فمن ثوابت الاستراتيجية الأميركية، خاصة في منطقتنا، منع تحول أي دولة، خاصة نفطية وذات ثقل بشري واقتصادي، إلى قطب إقليمي مستقل قادر على التأثير على بقية دول الإقليم وعلى بناء تحالفات مع قوى دولية غير الولايات المتحدة. هذا هو حال إيران اليوم. واشنطن تعلم أن استهدافها بعدوان عسكري مباشر سيكون باهظ الأثمان، لذلك هي تلجأ إلى استراتيجية زعزعة الاستقرار وأدواتها، وأولها استغلال الثُّغَر والتناقضات الداخلية لتأجيج النزاعات وإضعاف وحدة المجتمع وعلاقته بالدولة. الاستراتيجية الأميركية والإسرائيلية تجاه إيران رسمية، وقد أعلنها ترامب ونتنياهو بوضوح، لكن البعض مصرّ على أن لا يرى وأن لا يسمع.