لا يبتعد فيليب غولوب في الحوار معه عمّا ينحو إليه جمهور محللي السياسة الدولية مذاهب شتى، في تفسير ما قدّم الرئيس دونالد ترامب من استراتيجية للأمن القومي الأميركي. فمنهم من يرى أن الأهداف الأولى للسيطرة لا تنسجم من الآن فصاعداً مع الإمكانات الواقعية للإمبراطورية التي تغرب شمسها.
ويرى آخرون أن الإدارة الحالية لن تعمل بما قررته من استراتيجية لتعارض بعض عناوينها مع الحملة الانتخابية للرئيس ترامب. وهناك من لم يرَ فيها سوى حزمة عصي من وديان الإدارات القديمة.
يقول غولوب: «صحيح أن التجانس ليس فضيلة النص الترامبي. وصحيح أيضاً أن أفكاره مشوشة، وحتى يمكن الشك في النضج الذهني للبعض منها. مع ذلك يمكن استخلاص بعض العناوين والأفكار التي تتحكم بالخط العام لهذه الإدارة في رؤيتها للعلاقات الدولية. أولاً السيادة الأميركية. هذه السيادة تنبثق من نظرة استعلائية إلى العالم ومؤسساته الدولية، وتقلل من شأن القوانين التي تديرها، ولا تكترث بالعلاقات المتعددة الأطراف بين الأمم. كذلك ينبثق منها نوع من الانفراد بفرض إرادة الولايات المتحدة على العالم كله، لأن سيادتها تعلو على القانون الدولي وعلى ما وقّعه العالم أجمع من معاهدات.
في المرتبة الثانية يحلّ تأكيد التفوق العسكري والاستراتيجي، بغضّ النظر عن مقدار الواقعية فيه. على المدى البعيد يدعو النص إلى السلام من طريق القوة، وليس إلى القوة عبر السلام. إن الدعوة إلى التفوق والقوة تفرض على هذه الإدارة تطوير أسلحتها النووية، وتصليب قدرتها على التدخل العسكري في العالم، ورفع قوتها القتالية للتغلب في أي صراع عسكري مستقبلي، لا فرق وقع ذلك مع الصغير أو الكبير من الدول. نجد هنا أصداءً من نص استراتيجي للأمن القومي الأميركي صاغه جورج وليم بوش عام ٢٠٠١. وضع بوش غلبة الولايات المتحدة وتفوقها الدائمين غاية له عسكرياً واستراتيجياً».
في مقال حديث في «لو موند ديبلوماتيك»، عرض غولوب كيف استفادت الصين من العولمة لتحديث اقتصادها ورسم استراتيجية قوة عظمى، هل تكتفي الولايات المتحدة باحتواء الصين، أم تذهب نحو مواجهة أوسع معها؟
«صعدت الصين منذ إصلاحات دينغ هسياو بنغ في ١٩٧٨ تدريجاً، لتصبح قوة اقتصادية عالمية كبيرة. راوحت نسبة النمو الوسطى فيها عند التسعة في المئة خلال العقود الثلاثة الماضية، وتضاعف دخل الصيني الواحد ستين مرة، من عتبة الـ٢٥٠ دولاراً آنذاك ليتوسط عند ١٨ ألف دولار سنوياً اليوم. الصين تمضي في طريقها لتكون قوة عظمى، مع كل ما يترتب عن ذلك من مشكلات اجتماعية وبيئوية. واكب الصعود الصيني المزيد من الاتفاق العسكري وارتفاعه سنوياً بنسبة ٢ في المئة. الصين بصدد تطوير قوتها العسكرية وأسطولها البحري، لكنها يقيناً لا تنوي الهيمنة على العالم، فهي لا تملك الإمكانات ولا الإرادة. وهي تؤكد على الدوام رغبتها في الصعود السلمي، وهذا هو خط القيادة الصينية منذ ربع قرن».
في المقابل، ترى الولايات المتحدة الصين، منذ باراك أوباما وقبله، قوة منافسة في المحيط الهادئ، خصوصاً في شرق آسيا. الصين كانت على الدوام، ومنذ مئات السنين، محور الاقتصاد والثقافة في شرق آسيا.
هنا يشير غولوت إلى أنّ «المخططين الأميركيين يرون في الصعود الصيني تهديداً مباشراً للهيمنة الأميركية التي تسود المحيط الهادئ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي تعده الولايات المتحدة بحيرة أميركية منذ القرن التاسع عشر. وإزاء هذا الصعود وتمدد شبكات التجارة والاقتصاد الصيني في شرق آسيا، يشغل الولايات المتحدة سؤال احتواء الصين. خطرت للأميركيين فكرتان: الأولى ضمّ الصين إلى الاقتصاد الرأسمالي العالمي لفرض قواعد الانضباط عليها. ساد رهان أميركي على تغيير سياسي داخلي في الصين عبر تأثير مباشر لضمها إلى السوق الرأسمالية العالمية، بالتلازم مع فكرة ثانية أنه لا بد من الإبقاء على الانتشار العسكري الأميركي في المحيط الهادئ. وسّع باراك أوباما تحالفاته في الجوار الصيني، وضمّ إليها فييتنام. فعل ذلك من دون دمجها في أي سياسة احتوائية للصين. كان الهدف منها تصليب الحضور الأميركي في مواجهة تعاظم قوة الصين التي رأت في ذلك خطة ضمنية لاحتوائها».
في قلب الدولة العميقة الأميركية، والوكالات الأمنية، وداخل اليمين المتشدد النصير الدائم للتصدي بالقوة للشيوعية، عُدَّت سياسة باراك أوباما الصينية ضعيفة جداً وأنه لا بد من إجراءات فعالة لاحتواء الصين. وفي أوساط اليمين، اليمين المتشدد الذي يحكم أميركا اليوم مع إدارة ترامب، والذي تعود جذورهم التاريخية إزاء الصين إلى قراءة القرن العشرين، يدور سؤال عمّا إذا كان لا يزال من الممكن اليوم احتواء الصين؟
يجيب الباحث: «أنا أقطع أنّ من المستحيل احتواء الصين نظراً للتغييرات التي طرأت على العالم، وللدور الاقتصادي الكبير الذي تقوم به الصين في العالم. كذلك من المستحيل تفكيك شبكة الشركات الوسيطة التي أقامتها الصين خلال الأعوام الثلاثين الماضية، كذلك لا أحد من شركاء الصين الاقتصاديين، ومنهم أميركيون يتمنون المواجهة مع الصين، باستثناء اليابان التي تشعر بأن المنافسة الصينية تهددها».
لا يوجد بلد آسيوي واحد يريد الدخول في منطق احتواء أو مواجهة الصين، ولكنه يريدون الدخول في استراتيجية توازن، وهو أمر مختلف كلياً.

ساد رهان أميركي
على تغيير سياسي
داخلي في الصين

«يخطئ دونالد ترامب والفريق المحيط به، إذ يعتقدون أن بيدهم ما يكفي من الأدوات لتهديد الموقع الصيني. وعلى سبيل المثال يفترض الاحتواء إجراءات عقابية تجارية على المستوى العالمي أو حرباً تجارية، من بينها زيادة التعرفة الجمركية وغيرها من الإجراءات التي ستكون حرباً اقتصادية على الصين. ولكن هذه الحرب ستفعل باتجاهين. فإذا ما لجأت أميركا إلى إغلاق أسواقها أمام المنتجات الصينية عبر زيادة الرسوم الجمركية لن يتوقف أثرها على الصين وحدها، بل ستشمل شبكة تصنيع المكونات الإلكترونية في دول آسيا، وفي كوريا الجنوبية واليابان، قبل تجميعها في المصانع الصينية وتصديرها إلى الأسواق الأميركية. إن أي إجراء عقابي أميركي سيصيب حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، وسيكون إجراءً غبياً جداً».
نذكر أن الولايات المتحدة في السبعينيات، وتحت إدارة ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر، انفتحت خلال الحرب الباردة على الصين لكي تتفرغ لمواجهة الاتحاد السوفياتي، لماذا تواجه إدارة ترامب اليوم روسيا والصين معاً؟
«نحن إزاء استراتيجية غبية، وحتى إذا لم تكن المصالح الصينية والروسية متضافرة تماماً على الدوام، وحتى إذا لم تكن مصالح بلدان أخرى كإيران وتركيا هي الأخرى ليست متضافرة طوال الوقت مع روسيا والصين، وعلى الرغم من وجود تعاون بين هذه البلدان، إلا أنه لا يرقى إلى حدّ التحالف، لا يوجد حلف روسي صيني اليوم. هناك تقارب ما وتضافر في بعض القطاعات، وتلاقٍ حول بعض النقاط، لكن لا وجود لتحالف أو قوة صينية روسية تتحد لمواجهة الولايات المتحدة إلا إذا ما ذهبت هذه الأخيرة بعيداً. وأمام احتمال مواجهة عسكرية في شرق آسيا، قد ينشأ حلف حقيقي عسكري صيني روسي، وقوى أخرى. لكن خارج أجواء المواجهة لن ينشأ حلف لمواجهة أميركا. لا نفهم جيداً التفكير الاستراتيجي في واشنطن لأنه ضعيف جداً. إن فكرة مواجهة بقية العالم بأسره عبر عقيدة القوة السياسية الصافية فيما العالم لا يدار بهذه الطريقة وحدها».
كانت هناك استراتيجية أميركية أكثر مرونة، هي سياسة أوباما بالتفاوض مع إيران وروسيا، بالتفاوض والتلويح بالقوة مع الصين. كانت المقاربة متعددة الأبعاد ومتنوعة. يقول غولوب: «ليس في حوزة ترامب سوى سياسة ببعد وحيد، قائمة على القوة الصافية، التي تصطدم بحقائق العالم التي تغيّرت كثيراً منذ عام ١٩٩١. لم نعد في عالم القطب الواحد. كذلك لم نعد في عالم غداة الحرب العالمية الثانية عندما كانت الولايات المتحدة تسيطر وحدها، بسبب الدمار الذي لحق بأوروبا، على ٤٥ في المئة من الإنتاج العالمي، وعلى ٥٠ في المئة من المبادلات التجارية في العالم. لا يعني ذلك أن الولايات المتحدة قد أصبحت ضعيفة، لا، لكن لم يعد ممكناً إدارة العالم من مركز وحيد، فيما يعتقد ترامب وفريقه أن القوة وحدها هي التي ستسيطر من الآن فصاعداً، ويعني ذلك نشر القوة العسكرية في كل مكان».
بناءً على هذه الاستراتيجية القائمة على القوة، يمكن حلفاءَ كالسعودية، خيّب آمالهم أوباما في تفاهماته مع إيران، جرّ الولايات المتحدة إلى مواجهة مع إيران؟
«هناك تضافر في الرؤية حول إيران بين الإدارة الأميركية الحالية والقيادة الجديدة في السعودية. هناك خطر كبير بسبب التضافر أيضاً بين اليمين الإسرائيلي وحكومة بنيامين نتنياهو والقيادة السعودية الحالية والإدارة الأميركية للذهاب نحو مواجهة بالمعنى الواسع مع إيران. والخطر لا يأتي من الاحتواء، ولكن من احتمال الذهاب نحو عمليات نشطة ضد إيران. يظهر ذلك بوضوح في نص الاستراتيجية الذي يضع إيران وكوريا الشمالية على قدم المساواة، وهو خطر لا يعني أن تبادر الولايات المتحدة إلى شن الحرب، ولكن إلى احتمال وقوع عمليات تؤدي إلى حرب شاملة. من هنا يأتي الهذيان في هذه الإدارة التي ترى أيادي إيران في كل مكان من العالم العربي الإسلامي».
إذا كان هناك خلاف حول روسيا أحياناً داخل الإدارة والدولة العميقة، إلا أن الإجماع يقوم بينهما على مواجهة إيران. وفيما استطاعت الولايات المتحدة أن تهضم هزيمتها في فييتنام، إلا أنها لا تزال تعيش صدمة رهائن السفارة الأميركية في إيران، وتفجير السفارة الأميركية ومقر المارينز في بيروت عام ١٩٨٣؟!
«هناك أكثر من إجابة عن هذا السؤال. لم يستطع الأميركيون هضم ما جرى في إيران، لأن جيل فييتنام مختلف تماماً عن جيل إيران سياسياً. السياسيون الذين يهيمنون على الإدارة الحالية من فئة عمرية تتجاوز الخمسة والستين عاماً، لم يهضموا إلى الآن إسقاط الشاه، والرهائن، وتفجير مقر السفارة والمارينز في بيروت. إن استبطان هزيمة فييتنام كان معقداً جداً في أميركا، وحصل متأخراً جداً داخل النخب السياسية. أما في إيران، فقد أُهينت الولايات المتحدة من قوة متوسطة جداً، وإلى جانب ذلك هناك تضافر في النظرة إلى إيران بين إسرائيل والسعودية عزّز النظرة نفسها لدى الأميركيين تجاه المسألة الإيرانية، لكن في هذا الثلاثي ليس صحيحاً أن الذيل هو من يقود الرأس. لا تقود إسرائيل أو السعودية السياسة الأميركية، هناك تضافر وتلاقٍ استراتيجي. وإذا ما تعزز سيؤدي إلى كارثة استراتيجية عواقبها وخيمة على الجميع».
الإدارة التي تشعل الحرائق في كل مكان، خصوصاً مع قرارها الأخير الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو قرار لم نرَ مقدماته.
هنا يلفت غولوب إلى أن هذا القرار «غير عقلاني، وأحرج حتى حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا والعالم العربي والإسلامي. وهو يخرق الأعراف الدبلوماسية الأميركية نفسها، والقرارات الدولية، ويضع موضع الشك كلمة الولايات المتحدة وتعهداتها في العالم. ويمكن أن نشكر دونالد ترامب لأنه يعيد وضع القدس والمسألة الفلسطينية في قلب إهتمام العالم. لكنه يخلق اضطراباً لا يخدم مصالح أميركا لسببين: الأول ما رأيناه من عزلة دولية لها غير مسبوقة في مجلس الأمن والأمم المتحدة، خصوصاً أن جميع الدول الأوروبية تقريباً والعربية صوتت ضد القرار الأميركي. ولا نرى مخرجاً لأميركا من هذه العزلة، لأن ترامب لن يغيّر موقفه، ولو فعل سيكون مضحكاً. والثاني ما ينطوي عليه هذا القرار من عزلة لأميركا في العالم، وهو يرسخ بطريقة مفارقة، قناعة من يؤمنون في الإدارة الأميركية وعلى رأسهم دونالد ترامب، أنّ على الولايات المتحدة أن تقرر وتعمل وحدها من دون أي اعتبار للآخرين، وهي عزلة ستؤدي إلى المزيد من فقدان التأثير الأميركي في العلاقات الدولية».