افصحت ازمة استقالة الرئيس سعد الحريري، بتداعياتها المحلية والخارجية وصولاً الى المخرج الذي افضت اليه، عن المكانة الصلبة لحكومته في التسوية السياسية المستمرة منذ عام 2016، على انها في صلبها الى حين الوصول الى الانتخابات النيابية ربيع 2018. لم تتصرّف قبل استقالة الحريري على انها انتقالية، ولا إبانها، ولا تبدو كذلك اليوم بعدما تساقطت تباعاً «الاشاعات» التي احاطت بتعديلها جزئياً، او ابدالها باخرى.
لا رئيس الجمهورية ميشال عون، ولا التوازن السياسي الذي قامت عليه الحكومة تغيّر في ضوء آثار ازمة الاستقالة. الاصح ان الركن الثالث الذي هو رئيسها تغيّر تماماً. للمرة الاولى تجد اللعبة السياسية الداخلية نفسها امام حريري جديد يختلف عن ذاك الذي ترأس اولى حكومات العهد. لكنه يختلف اكثر بكثير عنه عندما ترأس حكومة 2009، وعنه مذ قاد قوى 14 آذار في النزاع الداخلي منذ عام 2005.
عوامل شتى تحمل على الاعتقاد بتحوّل رئيسي ــــ والبعض يصفه جوهرياً ــــ في الاداء الجديد لرئيس الحكومة مذ اجتاز محنته الاخيرة:

اخرج الحريري سلاح حزب الله من جدوى الاستراتيجيا الدفاعية



اولها، رغم تمسكه بعلاقاته الوطيدة بالسعودية ــــ وقد استعار لها اخيراً عبارة «العلاقات المميزة» التي التصقت بسوريا اكثر منها بالمملكة ــــ الا انه يحظى اليوم برعاية دولية مباشرة مذ خرج من احتجازه في الرياض، أعاد تكريسها اجتماع مجموعة الدعم الدولية للبنان في باريس. اذ نظر اليه على انه شريك رئيسي لها في لبنان، وعنصر استقرار حقيقي في الداخل. ومع ان التحرّك الغربي، المفوّض الى فرنسا، أكبّ على حماية الاستقرار اكثر منه على الحريري كهدف في ذاته، الا انه وجد في رئيس الحكومة «المحبوس» ــــ تبعاً لعبارة استخدمها عون اكثر من مرة في مكالماته مع القيادات ــــ ما يعرّض الاستقرار اللبناني برمته لخضّة غير محسوبة. اذذاك بدت سلامة رئيس الحكومة صمام امان هذا الاستقرار.
شرعية دولية كهذه اضحت اقوى من صلاحياته الدستورية في الوقت الحاضر، واحالته الى امد طويل لا يُستغنى عن موقعه في المعادلة الداخلية.
ثانيها، بالتأكيد لا يزال الغموض يسود علاقة الحريري بالسعودية مذ غادرها، بالطريقة التي غادر، كما لو انه فعل على ظهر مركب فرنسي أنجده. ليس ثمة ما يشير الى استعادته التواصل معها، ولا بدا في المقابل انها نسيت ما حدث منذ 18 تشرين الثاني يوم أُفلت منها. بذلك لم تعد المرجعية الاولى والمباشرة التي تحمي دوره في المعادلة السياسية مذ افتتحها والده الرئيس الراحل رفيق الحريري عام 1992 حينما وازن ــــ كما فعل السوريون ــــ بين وجوده على رأس الحكومة للمرة الاولى بين نفوذين سوري وسعودي يتقاسمان التأثير في لبنان.
لعل عدم تقديم السفير السعودس الجديد في لبنان وليد اليعقوب اوراق اعتماده الى رئيس الجمهورية، بعد مضي قرابة شهر على وصوله الى لبنان في 20 تشرين الثاني، خير مؤشر الى اكثر من غموض في العلاقة لا يقتصر على رئيس الحكومة، بل يطاول ايضاً الدولة اللبنانية برمتها. في الحالين لم يُقدم كلا الطرفين على خطوة واحدة حتى، وإن منفردة، الى الامام حيال الآخر. واقع الامر ان المملكة لم تغفر، ولبنان لم ينسَ.
وقد تكون مفارقة غير مسبوقة انها المرة الاولى ليس ثمة وسيط لبناني في علاقات البلدين: اولهم الرئيس حسين العويني من الاربعينيات حتى الستينيات، ثانيهم الرئيس صائب سلام مذذاك حتى الثمانينيات، ثالثهم الحريري الاب منذ ذلك الحين حتى اغتياله وخلافة ابنه له.
ثالثها، رغم كلامه المتكرر عن تردي علاقته ببعض حلفائه، مباشرة او بالواسطة عبر نواب كتلته النيابية، وتلميحه الى «بق بحصة» كان قد بقّها في الاصل عبر هؤلاء، لم يشأ الحريري قطع الجسور مع اولئك، والمقصود حليفه حزب القوات اللبنانية الذي يقيم في صلب التسوية السياسية. على ان تمسكه باستقرار حكومته الى موعد الانتخابات النيابية يجعله يقصر علاقته بالحليف السابق على مشاركته فيها دونما اظهار اي استعداد، حتى الآن على الاقل، الى استعادة ما كانت عليه علاقته بسمير جعجع. مضى على عودته الى لبنان 24 يوماً التقى الجميع تقريباً، ودائماً اكثر من مرة، باستثناء جعجع. مؤشر ليس قليل الاهمية بالنسبة الى رئيس الحكومة الذي لا ينسى عبارة اطلقها يوماً ان الموت وحده يفرّقه عن هذا الحليف.
ليس المهم في الامر حليف جديد وقع عليه يعوّضه ذاك، هو التيار الوطني الحر ورئيسه الوزير جبران باسيل فحسب، بل عثوره على رئيس للجمهورية وقف الى جانبه وأنجده في محنته، وأصرّ على بقائه على رأس الحكومة. لم يجد الحريري في عون الصورة التي جرّبها مع سلفه الرئيس ميشال سليمان يوم تخلى عنه في كانون الثاني 2011، وجارى قوى 8 آذار في إقصائه عن رئاسة الحكومة.
رابعها، قد تكون سلسلة مواقفه المتدرّجة من حزب الله افضل دليل على ان ثمة ما تغيّر حقاً في الرجل. في وقت سابق قال ان حزب الله لا يستخدم سلاحه في الداخل اللبناني. في وقت لاحق اجرى الاستدارة غير المتوقعة بقوله ان سلاح الحزب اقليمي ومشكلة لا يسع لبنان بمفرده حلها دونما تدخّل اقليمي. لا تقتصر دلالة هذا الموقف على محاولة إخراج سلاح حزب الله من السجال الداخلي فقط، بل تعني ــــ وهو اقوى ما تعنيه ــــ ان الكلام عن الاستراتيجيا الدفاعية لبت سلاح الحزب منذ اقر اتفاق الدوحة الحوار عليها وتلاحقت اجتماعاته من حولها طوال عهد سليمان حتى عام 2013، باتت غير ذات جدوى، وسَحَبَها من التداول حتى.
راحت التفسيرات المتباينة حيال ما توخاه كلام الحريري تفصل بين سلاح حزب الله والاستقرار الداخلي الذي يتهدّده ــــ في رأيه ــــ تدخّل الحزب في ازمات المنطقة وشؤون دولها اكثر منه وجود السلاح بين ايديه.