يمضي التاريخ الفلسطيني الحديث لدى «أبو الرائد» صعوداً بين جمر الانتفاضات: انتفاضة تخمد كي تنفجر من رمادها انتفاضة أخرى، أملاً بعد أمل. النضال الفلسطيني حرائق متصلة حتى العودة. «ما يجري اليوم، خطوة على طريق العودة والتحرير الكامل، لا زمن يحدّها. فالنضال طويل، ولن نحسم صراعنا بمعركة أو معركتين، ولكن الجماهير تراكم الانتصارات، والعدو يخسر دعماً دولياً، ويعاني أزمات داخلية، والساحات العربية تستفيق من سبات سنوات الضياع الخمس المنصرمة، ولا تزال قضية فلسطين مصهراً للأحلام العربية، ولا تزال القدس في القلب من هذه القضية»، يقول.
لا يرى القيادي التاريخي حلمي البلبيسي في اشتعال الانتفاضة الثالثة سوى لهب حريق فلسطيني لم يخمد «منذ الاحتلال العثماني، حتى المبكر من الثورات الفلاحية ضد وعد بلفور عام ١٩١٩، عندما شرع مؤتمر المنتصرين في الحرب العالمية الأولى من فرساي أبواب فلسطين للمستوطنين اليهود. ثم حمل عام ١٩٢٩ البراق اسماً إلى ثورة. وتلظت أرض فلسطين بتلك الانتفاضة المديدة بين عامي ١٩٣٦ و١٩٣٩ قبل أن يقف لها النظام الرسمي العربي بالمرصاد، وقتلها في المهد بسيف التعهد بتحصيل الحقوق، لقاء تهدئة الساحات وإسكات الميادين والصيحات. في ١٩٨٧، جاءت انتفاضة أطفال الحجارة جواباً عن غياب الإجابات العربية والفلسطينية الرسمية، فلا تدخل عربياً أو دولياً داعماً أو رسمياً فلسطينياً استطاع تحقيق المطالب، فخرج الناس إلى الشارع، في ثورات شعبية لا رأس حاكماً لها ولا ناظم لنبضها سوى قلب فلسطين».
الحديث عن الانتفاضة الحالية يعيد «أبو الرائد» إلى انتفاضة أطفال الحجارة المكتملة الثورية والفلسطينية، «فكانت الأقدر على جذب الدعم الدولي حيث لا طخ ولا سلاح ولا عنف، سوى عنف شعب الحجارة في وجه جيش مدجّج بالسلاح، لكن القيادة الفلسطينية رصفت بحجارة الأطفال الطريق إلى أوسلو، والتنازل عن الكثير من الحقوق الفلسطينية. حتى من ثابر من الفصائل على النضال أدركه الإحباط ما إن دخلت تلك القيادة في عملية سياسية مع العدو».
الإحباط في دورته لا يقود الفلسطينيين دوماً إلى اليأس، إذا ما عبر بباحات الأقصى، التي تحوّله إلى حمم. «في إحباط عام ألفين، عاد الفلسطينيون إلى الانتفاضة، ما إن اقتحم المجرم أرييل شارون باحات الأقصى، ليسقط العشرات من الشهداء». انتظر الطلاق مع السلطة والفصائل أن ينتهي الفلسطينيون من شحذ غضبهم وسكاكينهم عام ٢٠١٥. الانتفاضة ولدت مجدداً طعناً ودهساً «بعيداً عن أي سلطة وأي فصائل، وهي الانتفاضة التي نشهدها الآن، يتصاعد مدّها وطعنات شبابها وصباياها ويتراجع وفقاً لديالكتيك العمل الجماهيري صعوداً وهبوطاً. التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والعدو منع الانتفاضة من الوصول إلى مناطق الاشتباك مع العدو ومرحلة العمل العسكري».

الناس مشحونة وأيّ عداء
من السلطة ستكون له نتائج
وخيمة عليها

مع قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، خرج الأمر عن السيطرة؛ «في المرحلة الجديدة، السلطة عاجزة عن صدّ المنتفضين، وأنّى لها أن تفعل وقد عمّت الانتفاضة فلسطين من النقب جنوباً إلى أم الفحم شمالاً».
هل نحن ذاهبون نحو ثورة شعبية فلسطينية مستمرة أعمق وأشمل من أيّ انتفاضة جرت منذ انتفاضة أطفال الحجارة؟ وهل تنبعث مناخات تلك الانتفاضة في شوارع فلسطين اليوم؟ عند «أبو الرائد»، الانتفاضة الأولى «قامت والسلطة الوطنية لم تكن قد ولدت بعد. لم يكن هناك طرف فلسطيني على أرض فلسطين ليقف ضد تلك الانتفاضة وحجارتها، لذلك كانت المواجهة مباشرة بين شعبنا وجنود الاحتلال، فلا وجود للأمن الفلسطيني الذي يتدخل لاعتقال المناضلين... وقعت الانتفاضة الثانية والسلطة بيد الرئيس ياسر عرفات الذي استفاد منها وترك الشباب يحوّلونها إلى انتفاضة مسلحة. كان اقتحام شارون للأقصى كبيرة من الكبائر أدت إلى انتفاضة استمرت خمسة أعوام. صحيح أن عرفات كان يفاوض العدو ويتحدث عن السلام، لكنه كان يهيّئ ويدعم المقاومة ويخلي لها ساحات العمل».
كيف نعلي رايات التفاؤل باستمرار انتفاضة اليوم كي لا تنطفئ في رماد سابقاتها؟ هنا يجيب البلبيسي: «نحن اليوم في ظروف مختلفة عن تلك التي سادت الانتفاضتين الأولى والثانية؛ فالنهوض الشعبي الفلسطيني أعم وأعمق، ومن خلال الاتصالات مع شباب الداخل يجري الإعداد والعمل على تصليب قاعدة الانتفاضة كي تصبح ثورة مستمرة. وهؤلاء شبان استفادوا دروساً وخبرة من الانتفاضات الماضية، ونحن لا نرى سوى أقل من ٢٥ في المئة ممّا يجري من مواجهات في فلسطين؛ فالبلدة القديمة في القدس محاصرة، والعيسوية مغلقة أيضاً، وقد أغلق العدو بلدة سلوان بالمكعبات الاسمنتية، والشعب في هذه الأحياء الداخلية ينتفض ويواجه، وهناك شهداء وجرحى، لا نعلم عن عددهم شيئاً».
لا ضمان لاستمرارية الانتفاضات من دون إجهاض التنسيق الأمني. المطلب يبدو مستحيلاً لدى السلطة، ولكنه تحصيل حاصل في كل نقاش مع أيّ قيادي فلسطيني خارج السلطة: «على السلطة أن ترفع يدها عن الشباب، وأن توقف التنسيق الأمني. فإن لم تستطع، عليها أن توقف حملات الاعتقال، وهو أضعف الايمان».

هل أربكت الانتفاضة الفصائل وفاجأتها؟ «حتى الآن لم تمارس الفصائل دورها في حماية الانتفاضة. عندما تحتفي الفصائل بشهيد يحتشد حولها الآلاف، وعندما تحتفل بأيّ ذكرى لأيّ انطلاقة يتبعها مئات الآلاف. ما يجري الآن أوجب من أيّ احتفال بالانطلاقات. على الفصائل أن تدفع بشبانها إلى الشارع؛ لديها الجماهير، ولديها منظماتها المختلفة في الأحياء والجامعات، لكن هذا لم يحدث حتى الآن».
الدعم العربي لا يلاقي أدنى الطموح ولكنه ينتظم، «شهدنا استنكاراً لزيارة الوفد البحريني إلى القدس في بيان منظمة الوفاق في البحرين الواضح والجلي، الذي قال إن البحرين سنّة وشيعة وقفت ضد التطبيع ومع فلسطين حتى النهاية. الشوارع العربية تتظاهر في المغرب والجزائر ومصر، وهذا ما يراه شعبنا في الداخل ويدرك أنه ليس وحده في وجه العدو، ويرى إخوانه العرب يقفون معه. اليمن الجريح نزل بمئات الآلاف هتافاً لفلسطين. أما الموقف الرسمي العربي، فيضغط على الأميركيين، ويقول لهم: هذا يكفي، أعطيناكم ما تريدون، تعاونّا معكم ضد الإرهاب، وتساهلنا في الكثير من القضايا، ولكن القدس قضية لا يجوز أن تمسوها. لكن ينبغي أن يترسّخ الاقتناع في أذهاننا بأن أميركا ليست داعماً لإسرائيل فحسب، بل هي العدو لشعبنا وأمتنا، والكيان الصهيوني أحد مظاهر هذا العداء. من دون الدعم الإمبريالي الأميركي، من دون أميركا، من دون بريطانيا، ومن دون الصمت العربي، ليس لهذا الكيان القدرة على البقاء. أما نحن، فقادرون على تقديم التضحيات والصمود».

لم تمارس الفصائل حتى الآن
دورها في حماية الانتفاضة


لكن إذا أصرّت السلطة على البقاء في خندق العدو، ورفضت وقف التنسيق الأمني، فقد تنحدر الانتفاضة إلى فتنة داخلية، وقد تقع مواجهات مع الأمن الفلسطيني؛ «نحرص على عدم الانزلاق إلى مواجهات بين الانتفاضة والسلطة. من يومين أصدرت كتائب الشهيد عبد القادر الحسيني بياناً قالت فيه إنها أطلقت صاروخين على مواقع للعدو. في هذا الوقت لا نحتاج إلى اشتباك عسكري فردي، نحن بحاجة إلى التنسيق بين الفصائل كي لا تتشتت الجهود وتنصرف العيون عن القدس. لكن لا بد من الضغط على محمود عباس في الداخل مع الهيئات والفصائل. ولا بد من ضغط عربي، وعلى التنظيمات التقدمية العربية وكل من ناصر فلسطين أن يضغطوا على سلطة عباس لوقف التنسيق الأمني».
كيف يجري التنسيق الأمني الآن؟ «منذ يومين منع الحرس الرئاسي وصول الجماهير إلى مستوطنة بيت إيل. لا نريد لذلك أن يتكرر أو يتكرس، وعلى السلطة أن تعي أن هذه الهبّة أو الانتفاضة هي ضد العدو، وليست ضدها. الناس غاضبة ومشحونة، وأيّ عداء من السلطة للانتفاضة ستكون له نتائج وخيمة عليها».