محكمة الجنايات: وصف الرئيس بـ«الظالم» ليس جرماً
مطلع العام الماضي، صدر حكم عن محكمة جنايات بيروت، برئاسة القاضية هيلانة إسكندر، برّأت فيه أحد المواطنين من تهم «التحقير» و«القدح» و«الذم» بحق رئيس الجمهورية. آنذاك، مرّ الحكم من دون أن يحدث ضجيجاً إعلامياً، على غرار الحاصل هذه الأيام، بعد سلسلة من الأحكام «الظالمة» ذات الصلة بالتهم المذكورة آنفاً.
اسم المتهم في تلك القضية جميل محو، وهو، بحسب ما ورد في الادّعاء عليه: «السكرتير العام للحزب الديموقراطي الكردي في لبنان _ البارتي». كان الفارق الزمني بين الادّعاء وصدور الحكم (الغيابي) نحو 10 سنوات. بدأت القصة عندما ورد إلى القضاء كتاب معلومات، من قوى الأمن الداخلي، يتضمن أن محو نشر على شبكة الإنترنت عدّة مقالات، أبرزها مقال بعنوان: «أربع سنوات من حكم الظلم والاستبداد». ومن جملة الصفات التي وصف بها الكتاب رئيس الجمهورية السابق، إميل لحود، أنه «ديكتاتوري» و«ظالم». حصل الادّعاء، ثم أصبح الكاتب متهماً بـ«ممارسة نشاط حزبي سرّي، عن طريق نشر كتابات على الإنترنت، من شأنها الإساءة إلى رئيس البلاد، والذمّ به، وتعكير صلات لبنان بدولة شقيقة». وصلت القضية إلى محكمة الجنايات، وعندما نظرت الهيئة فيها، برئاسة القاضية إسكندر، وجدت أن التهم المنسوبة إلى محو «على قدر كبير من الخطورة. وبغض النظر عن صواب رأي الكاتب، فإنه لا يمكن اعتبار كل من يُعارض النظام القائم، أو طريقة إدارة البلاد، مرتكباً مثل هذه الجرائم الخطيرة... وتبقى حرية الرأي هي الأساس».
هكذا، حكمت المحكمة: جميل محو «بريء». قضى الحكم بعدم تجريمه بالجناية المسندة إليه، المنصوص عليها في المادة 288 من قانون العقوبات، وبعدم إدانته بالجنحتين المنصوص عليهما في المواد 386 و337/338، إضافة إلى «إبطال التعقبات بحقه واسترداد مذكرة إلقاء القبض الصادرة بحقه». الحكم مميز، بلا شك، لأن القضاة (هيئة المحكمة) يدركون حساسية قضايا كهذه، تتعلق بحيثيات ذات طابع سياسي، وتحديداً عندما تكون مرتبطة برئيس الجمهورية وحيثية موقعه في القوانين النافذة. يمكن القول أكثر من ذلك. فمن مظاهر التميّز التي يحتاج إليها القضاة في قضايا كهذه هي علمهم بأن أحكامهم ستدخل في مصنفات «الاجتهاد» التي يركن إليها، لاحقاً، قضاة آخرون عند بتّهم قضايا مماثلة أو مشابهة. هنا تكمن أهمية هذه الأحكام.
كان لافتاً أن المحكمة لم تقتصر في «اجتهادها» على القوانين اللبنانية، بل استندت أيضاً إلى «حريّة التعبير» التي كفلها الدستور، والمكرسة في المادة 13 منه، وكذلك استندت إلى المادة 19 من «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان». استناد يبدو بديهياً للوهلة الأولى، لكون لبنان ملزماً بتطبيق كل ما جاء في المعاهدات والمواثيق الدولية التي وقّع عليها، والتي تسمو أحياناً بطبيعتها على القوانين المحلية. لكن، وبمتابعة للكثير من الأحكام القضائية في لبنان، يتضح أن حكم محكمة الجنايات المذكور جاء من «خارج السائد» (باستثناء بعض أحكام قليلة أخرى استندت خلال السنوات القليلة الماضية، خاصة في قضايا التعذيب، إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وغير ذلك من الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية الملزمة). ميزة أحكام كهذه أنها تشجّع القضاة على النظر بعيداً، وتجنّبهم الرضوخ لـ«صنمية» النص، وبالتالي الاستفادة من نصوص حقوقية دولية (لبنان موقّع عليها) للتفلت من بعض النصوص المحلية التي عفا عليها الزمن، والتي طالما اشتكى عدد لا بأس به من القضاة من كونها «لا تتناسب مع ميولهم واقتناعاتهم الحقوقية والإنسانية». أحد هؤلاء القضاة قال لـ«الأخبار»، قبل مدة، في قضية معقدة كانت أمامه: «اقتناعي الإنساني في جهة، والنص القانوني عندي في جهة أخرى، وهذه مسألة مزعجة جداً. وفي حال الاجتهاد عكس ظاهر المواد القانونية فقد يعرّضني للمساءلة والمحاسبة القضائية». وفي المناسبة، حصلت سابقاً حالات مماثلة، اجتهد فيها بعض القضاة من خارج السائد، فما كان إلا أن انهالت عليهم العقوبات المسلكية، بطرق مباشرة مثل الاستدعاء إلى هيئة التفتيش القضائية، أو غير مباشرة مثل المضايقات أو النقل من مركز إلى آخر من دون أسباب معلنة. قد يكون ما حصل مع القاضي جوني القزي خير مثال على هذا، بعدما أصدر حكمه الشهير بإعطاء أم لبنانية حق منح أولادها الجنسية اللبنانية، ليلقى من بعد ذلك ما لقي من صنوف الترهيب والتهميش المتواصل إلى اليوم. يُشار إلى أن المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنص على أنه: «لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقّيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية».
إلى ذلك، ثمّة نقطة أخرى كانت بارزة في حكم محكمة الجنايات بحق جميل محو، تتعلق بإعلان براءته أيضاً من الجرائم المتعلقة بـ«التنظيم السري» و«تعكير صلات لبنان بدولة شقيقة». فقد جاء في نص الحكم أن المقالات التي كتبها «ليس من شأنها أصلاً أن تعكر هذه الصلات، لأن هذه الصلات من المفترض أن تكون أقوى من بعض الآراء المعارضة، علماً بأن الكاتب أكد على إقامة أفضل العلاقات بين البلدين، مع مطالبته بتصحيح ما اعتبره شاذاً». ليس عابراً، في لبنان، أن يكون القاضي قرأ بتمعّن نصوص تلك المقالات التي ادُّعي على صاحبها بسببها، مظهراً خبرة في الأدبيات السياسية، ليخلص في النهاية إلى اعتبار التهم التي أحيل بسببها على المحكمة «خطيرة»... وليحكم في النهاية ببراءته منها. ومما جاء في نص الحكم أن «الكتابات الواردة على شبكة الإنترنت تشكل تعبيراً عن الرأي، ولا تشكل نشاطاً سياسياً خاضعاً لترخيص مسبق، ولا تُشكل، بالتالي، ممارسة لنشاط حزبي سري في لبنان». وفي مقطع آخر من الحكم، تظهر هيئة المحكمة وعياً للفرق بين التعرّض لشخص الرئيس وبين التعرّض لسياسته خلال حكمه، فترى أنه «ليس من شأن عبارات يتهم فيها الكاتب حكم الرئيس لحود بالظلم والاستبداد، واعتبار نظامه ديكتاتورياً، التعرّض لشخص رئيس الجمهورية، بل هو تعبير عن رأي الكاتب، بما يعتبر أنه كان يحصل في فترة معينة». وتضيف في النهاية: «تبقى حرية الرأي هي الأساس، ما لم يجر التعرّض بشكل جارح للأشخاص أو الحطّ من قدرهم، أو ما دامت لا تؤدي إلى تعكير الصلات بين لبنان والدولة الصديقة، والتي من المفترض أن تكون على قدر من المتانة والقوة، فلا تهتز عند أول انتقاد أو رأي مخالف».
يمكنكم متابعة محمد نزال عبر تويتر | @Nazzal_Mohammad
اسم المتهم في تلك القضية جميل محو، وهو، بحسب ما ورد في الادّعاء عليه: «السكرتير العام للحزب الديموقراطي الكردي في لبنان _ البارتي». كان الفارق الزمني بين الادّعاء وصدور الحكم (الغيابي) نحو 10 سنوات. بدأت القصة عندما ورد إلى القضاء كتاب معلومات، من قوى الأمن الداخلي، يتضمن أن محو نشر على شبكة الإنترنت عدّة مقالات، أبرزها مقال بعنوان: «أربع سنوات من حكم الظلم والاستبداد». ومن جملة الصفات التي وصف بها الكتاب رئيس الجمهورية السابق، إميل لحود، أنه «ديكتاتوري» و«ظالم». حصل الادّعاء، ثم أصبح الكاتب متهماً بـ«ممارسة نشاط حزبي سرّي، عن طريق نشر كتابات على الإنترنت، من شأنها الإساءة إلى رئيس البلاد، والذمّ به، وتعكير صلات لبنان بدولة شقيقة». وصلت القضية إلى محكمة الجنايات، وعندما نظرت الهيئة فيها، برئاسة القاضية إسكندر، وجدت أن التهم المنسوبة إلى محو «على قدر كبير من الخطورة. وبغض النظر عن صواب رأي الكاتب، فإنه لا يمكن اعتبار كل من يُعارض النظام القائم، أو طريقة إدارة البلاد، مرتكباً مثل هذه الجرائم الخطيرة... وتبقى حرية الرأي هي الأساس».
هكذا، حكمت المحكمة: جميل محو «بريء». قضى الحكم بعدم تجريمه بالجناية المسندة إليه، المنصوص عليها في المادة 288 من قانون العقوبات، وبعدم إدانته بالجنحتين المنصوص عليهما في المواد 386 و337/338، إضافة إلى «إبطال التعقبات بحقه واسترداد مذكرة إلقاء القبض الصادرة بحقه». الحكم مميز، بلا شك، لأن القضاة (هيئة المحكمة) يدركون حساسية قضايا كهذه، تتعلق بحيثيات ذات طابع سياسي، وتحديداً عندما تكون مرتبطة برئيس الجمهورية وحيثية موقعه في القوانين النافذة. يمكن القول أكثر من ذلك. فمن مظاهر التميّز التي يحتاج إليها القضاة في قضايا كهذه هي علمهم بأن أحكامهم ستدخل في مصنفات «الاجتهاد» التي يركن إليها، لاحقاً، قضاة آخرون عند بتّهم قضايا مماثلة أو مشابهة. هنا تكمن أهمية هذه الأحكام.
كان لافتاً أن المحكمة لم تقتصر في «اجتهادها» على القوانين اللبنانية، بل استندت أيضاً إلى «حريّة التعبير» التي كفلها الدستور، والمكرسة في المادة 13 منه، وكذلك استندت إلى المادة 19 من «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان». استناد يبدو بديهياً للوهلة الأولى، لكون لبنان ملزماً بتطبيق كل ما جاء في المعاهدات والمواثيق الدولية التي وقّع عليها، والتي تسمو أحياناً بطبيعتها على القوانين المحلية. لكن، وبمتابعة للكثير من الأحكام القضائية في لبنان، يتضح أن حكم محكمة الجنايات المذكور جاء من «خارج السائد» (باستثناء بعض أحكام قليلة أخرى استندت خلال السنوات القليلة الماضية، خاصة في قضايا التعذيب، إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وغير ذلك من الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية الملزمة). ميزة أحكام كهذه أنها تشجّع القضاة على النظر بعيداً، وتجنّبهم الرضوخ لـ«صنمية» النص، وبالتالي الاستفادة من نصوص حقوقية دولية (لبنان موقّع عليها) للتفلت من بعض النصوص المحلية التي عفا عليها الزمن، والتي طالما اشتكى عدد لا بأس به من القضاة من كونها «لا تتناسب مع ميولهم واقتناعاتهم الحقوقية والإنسانية». أحد هؤلاء القضاة قال لـ«الأخبار»، قبل مدة، في قضية معقدة كانت أمامه: «اقتناعي الإنساني في جهة، والنص القانوني عندي في جهة أخرى، وهذه مسألة مزعجة جداً. وفي حال الاجتهاد عكس ظاهر المواد القانونية فقد يعرّضني للمساءلة والمحاسبة القضائية». وفي المناسبة، حصلت سابقاً حالات مماثلة، اجتهد فيها بعض القضاة من خارج السائد، فما كان إلا أن انهالت عليهم العقوبات المسلكية، بطرق مباشرة مثل الاستدعاء إلى هيئة التفتيش القضائية، أو غير مباشرة مثل المضايقات أو النقل من مركز إلى آخر من دون أسباب معلنة. قد يكون ما حصل مع القاضي جوني القزي خير مثال على هذا، بعدما أصدر حكمه الشهير بإعطاء أم لبنانية حق منح أولادها الجنسية اللبنانية، ليلقى من بعد ذلك ما لقي من صنوف الترهيب والتهميش المتواصل إلى اليوم. يُشار إلى أن المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنص على أنه: «لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقّيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية».
إلى ذلك، ثمّة نقطة أخرى كانت بارزة في حكم محكمة الجنايات بحق جميل محو، تتعلق بإعلان براءته أيضاً من الجرائم المتعلقة بـ«التنظيم السري» و«تعكير صلات لبنان بدولة شقيقة». فقد جاء في نص الحكم أن المقالات التي كتبها «ليس من شأنها أصلاً أن تعكر هذه الصلات، لأن هذه الصلات من المفترض أن تكون أقوى من بعض الآراء المعارضة، علماً بأن الكاتب أكد على إقامة أفضل العلاقات بين البلدين، مع مطالبته بتصحيح ما اعتبره شاذاً». ليس عابراً، في لبنان، أن يكون القاضي قرأ بتمعّن نصوص تلك المقالات التي ادُّعي على صاحبها بسببها، مظهراً خبرة في الأدبيات السياسية، ليخلص في النهاية إلى اعتبار التهم التي أحيل بسببها على المحكمة «خطيرة»... وليحكم في النهاية ببراءته منها. ومما جاء في نص الحكم أن «الكتابات الواردة على شبكة الإنترنت تشكل تعبيراً عن الرأي، ولا تشكل نشاطاً سياسياً خاضعاً لترخيص مسبق، ولا تُشكل، بالتالي، ممارسة لنشاط حزبي سري في لبنان». وفي مقطع آخر من الحكم، تظهر هيئة المحكمة وعياً للفرق بين التعرّض لشخص الرئيس وبين التعرّض لسياسته خلال حكمه، فترى أنه «ليس من شأن عبارات يتهم فيها الكاتب حكم الرئيس لحود بالظلم والاستبداد، واعتبار نظامه ديكتاتورياً، التعرّض لشخص رئيس الجمهورية، بل هو تعبير عن رأي الكاتب، بما يعتبر أنه كان يحصل في فترة معينة». وتضيف في النهاية: «تبقى حرية الرأي هي الأساس، ما لم يجر التعرّض بشكل جارح للأشخاص أو الحطّ من قدرهم، أو ما دامت لا تؤدي إلى تعكير الصلات بين لبنان والدولة الصديقة، والتي من المفترض أن تكون على قدر من المتانة والقوة، فلا تهتز عند أول انتقاد أو رأي مخالف».
يمكنكم متابعة محمد نزال عبر تويتر | @Nazzal_Mohammad