غياب رئيس الحكومة سعد الحريري عن لبنان وإعلانه استقالته من الرياض، أحدثا دوياً لا يزال صداه يتردد بقوة داخل أروقة بيت الوسط، كما في كل العواصم ذات الصلة بالتسوية التي أعادته إلى البلد وكرّسته زعيماً محصّناً بشرعيات ثلاث: دستورية وسياسية وشعبية، كما حال الرئاستين الأولى والثانية.
الاستقالة صيغت بمفردات ومصطلحات لم يسبق أن استخدمها الحريري في تغريداته وتصريحاته حتى في ذروة التصعيد مع خصومه. وهو لم يفعل ذلك حتى يوم اختار منفاه الطوعي بين الرياض وباريس بعد عام 2011، بذريعة الخوف الأمني. وإذا كان ما حصل على مدى أربعة عشر يوماً متتالية أثبت أن رئيس الحكومة ضرورة لبنانية للاستقرار الداخلي، وان إزاحته من خلال الانقلاب على «التسوية الرئاسية» أكبر من قدرة البلد على الاحتمال، فإن هذه الأحداث أظهرت للجميع صورة فريقين يتصارعان في بيت المستقبل الواحد.
الفريقان حريريا النشأة والاطلالة السياسية. أما الفواصل بينهما، فظلت حتى ظهيرة عيد الاستقلال غير مرئية، اللهم إلا بالنسبة لقلة عايشوا زمن الأب والابن، وهؤلاء يجزمون بأن سعد يتحمل، وربما عن غير قصد، جانباً من المسؤولية عن هذا الأمر. فهو قرر الغياب عن لبنان بعد الأزمة الكبيرة. ثم غادر معه بعض أركانه من دون اي مبررات سياسية أو أمنية. بينما انكفأ آخرون عن المشهد، وهم ممن تصُح تسميتهم بـ«ملائكة رفيق الحريري». برغم أن هؤلاء لم يقبلوا المغامرة بالابن، ولم يشوّهوا أداءه السياسي لتحقيق أوهامهم بنيل المناصب والترقي السياسي والمالي.
الغياب والانكفاء، بحسب بعضهم، أفسحا المجال للفريق الثاني بالحضور وملء الفراغ السياسي والإعلامي الذي عانى منه تيار «المستقبل» لأسباب كثيرة، من غياب الكفاءات المطلوبة، وصولاً الى انعكاسات الازمة السورية وما بينهما من أزمات مالية تزامنت مع تفكك الخطاب الإعلامي والسياسي. حتى وصل الأمر بهذا الفريق الى واقع «التيه السياسي» الذي ظل سائداً حتى مبادرة الرئيس الحريري إلى كسر حلقة الفراغ الرئاسي عبر تبني ترشيح زعيم تيار المردة سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية.
آنذاك، «لم يُعد ترتيب الأمور كما ينبغي، على الرغم من وضوح مساعي من يعتبرون أنفسهم بُدلاء. وما زاد الأداء ضعفاً أن تيار المستقبل حتى بعد مؤتمره الثاني لم ينجح في العودة إلى ما كان عليه من حضور وتماسك حتى عام 2012، وبالتالي لم يكن قادراً على مواكبة التسوية الرئاسية على الأرض مع المناصرين والجمهور. فكان هناك خطابان، الأول منسجم تماماً مع التسوية، والثاني تصادمي وشعبوي لم يميز بين اللغة السياسية المتمسكة بالاستقرار العام وبين المنافسة للفوز بالانتخابات النيابية المُزمعة».
الفريق «الملائكي» استشعر منذ اللحظة الأولى لسفر الحريري الى الرياض أن «رئيس الحكومة صار رهينةً ومقيداً»، وأن كل ما يصدر عنه من هناك لا يُعتدّ به. وهو عمل على الحؤول دون ترجمة مضمون الاستقالة الإلزامية دستورياً وسياسياً حرصاً على مصلحة لبنان. هي نفسها المصلحة التي راعاها الحريري عند الموافقة على انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. وقد حصل على موافقة ومباركة السعودية. وقد تولى تسويق هذه التغطية وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان، الذي وصل بيروت وجال على القيادات السياسية مُبشراً بمكانة لبنان واللبنانيين لدى المملكة وخشيتها على استقراره وسلمه الأهلي.
من وصف الفريق الأول بـ«الملائكي»، هو نفسه من وصف الفريق الثاني بـ«شياطين السبهان». هؤلاء الذين تظهر التطورات والوقائع تصاعد حضورهم، منذ وطأ السبهان أرض لبنان عام 2013 حتى تعيينه كملحق عسكري عام 2015 بالتوازي مع غياب الحريري. وما زاد من قوتهم واتساع طموحاتهم أيضاً، تناغمهم مع رأيه وتقديراته، علماً أنه مثّل الفشل الأكبر لسياسة الرياض في العراق، لكنه قرر محاولة التعويض في لبنان. أما استراتيجيته فبناها على تصورات وتقديرات، هي في الحقيقة خلاصة جلسات تتوزع نهاراً على بعض المقاهي وليلاً على أحد المطاعم. من دون أن يقفل الباب على لقاءات ضيقة وحساسة مع سياسيين معارضين لسياسة الحريري، يتقدمهم من يمنح نفسه صفة «المفكر». أما خلاصة هذه اللقاءات، فكانت تظهر الى العلن عبر مقالات تُنشر في صحيفة سعودية، وهي لم تتضمن يوماً تصوراً لمعالجة الوضع اللبناني المعقد، بقدر ما كانت تركز على ادعاء احباطات لا تُفضي إلا إلى زعزعة الاستقرار وتبرير الخطاب الداعشي.

من هم «شياطين السبهان»؟
الذي يريد تبسيط الموقف، يمكن أن يحصي من تغيب عن لقاءات باريس بعد انتقال الحريري اليها. هذا لا يعني ان كل من لم يحضر هو ضد الحريري، لكن الحديث هنا، عن مجموعة تصرفت طوال الوقت على انها من يقود المعركة بوحي من بيان الاستقالة وادعاء التواصل مع الحريري.
لكن الأكيد أن لقاءات باريس أتاحت الكشف عن هوية «ملائكة الأب»، وهم: النائبة بهية الحريري وولداها نادر واحمد، الوزيران نهاد المشنوق وغطاس خوري، الوزير السابق باسم السبع والمستشار الإعلامي هاني حمود. والكل على قناعة بأن كل صورة نشرها الحريري أو مكتبه، خلال يومين متتاليين، كانت لتوضيح نتائج أولية لـ«فترة التأمل»، التي قال الرئيس الحريري نفسه انه يعيشها.
التوصيف هذا، على صحته أو خطأه وإن كان يعكس قدرة الرئيس الحريري على ضبط الأمور، لا يعني أبداً، أن أصداء دوي الأزمة ستختفي عاجلاً، لأن الأسبوعين اللذين سبقا عودته، ثم ما حصل عند تكريسه زعيماً أوحد لتيار «المستقبل» من خلال الاستقبال الشعبي في بيت الوسط، لا يقفلان الأبواب على من يهدد الاستقرار العام ربطاً بطموحات أو غرائز.