يشكّل تحرير مدينة البوكمال إحدى أهم المحطات التي كشفت محدودية التأثير الإسرائيلي المباشر في المجريات الميدانية في الساحة السورية، رغم تقديرها المخاطر العالية التي ينطوي عليها التواصل البري بين إيران وسوريا عبر العراق، على معادلات الصراع مع إسرائيل ومجمل المشهد الإقليمي.
وبمعايير الأمن القومي الإسرائيلي، والمصالح الأميركية ــ الإقليمية، كانت تل أبيب تنتظر أن تتمكن إدارة دونالد ترامب من فرض خط أحمر يمنع التواصل البري مع العراق، كجزء من خطة احتواء مفاعيل انتصار محور المقاومة على الساحة السورية. ومن هنا، شكّل تحرير عقدة التواصل بين العراق وسوريا محطة اختبار كاشف وإضافي عن مدى تصميم الإدارة الأميركية على خياراتها في مواجهة تصميم وإرادة محور المقاومة.
تحرير مدينة البوكمال يجسّد عملياً التواصل البري الذي كانوا يتخوفون ويرفعون في تل أبيب الصوت تحذيراً من مفاعيله. فهو يشكل مدخلاً لتعزيز المفاعيل الإقليمية لانتصارات محور المقاومة في الساحة السورية، وتعبيداً لمسار تصاعدي سوف يكون له تداعياته الاستراتيجية على معادلات الصراع مع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. ووفق دراسة صادرة عن «معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب»، يشكّل الجسر البري بين إيران والنظام السوري وحزب الله، عبر العراق، «تهديداً وجودياً كامناً على إسرائيل» على المدى البعيد (تشرين الأول 2017).
منذ تبلور في وعي صناع القرار السياسي والأمني في تل أبيب انعدام الرهان على إمكانية سقوط الرئيس بشار الأسد، وانتقال الجيش السوري وحلفائه إلى مرحلة تحرير الأراضي من الجماعات المسلحة، حددت إسرائيل مجموعة خطوط حمر تهدف إلى محاولة احتواء مفاعيل فشل رهاناتها وهزيمة خياراتها على الساحة السورية. فإلى جانب الخطوط الحمر المتصلة بالقدرات النوعية والاستراتيجية، طالبت إسرائيل بمنطقة عازلة بعمق 60 كلم عن حدود الجولان المحتل، وأعلنت أنها لن تسمح بتكريس الوجود الإيراني في سوريا، وبناء قواعد عسكرية إيرانية على الأراضي السورية.
لكن تحرير مدينة البوكمال بما يمثله من تجسيد للتواصل البري بين سوريا والعراق، يشكل التفافاً وتقويضاً للمخطط الإسرائيلي ــ الأميركي في احتواء انتصار محور المقاومة. مع ذلك، أدركت تل أبيب منذ البداية محدودية خياراتها الذاتية في مواجهة هذا المسار. من هنا، كان رهانها الأساسي على ما يمكن أن تتخذه إدارة ترامب في هذا المجال، وهو ما صدر آنذاك على لسان وزير الاستخبارات يسرائيل كاتس، الذي توقع ألا تسمح الولايات المتحدة بذلك.
بقدر من التفصيل، يرون في تل أبيب أن التواصل الجغرافي مع الجمهورية الإسلامية، عبر العراق، سيعزز محور المقاومة على أكثر من مسار. ويقوِّض مفاعيل أي خطوط حمر تحولت إلى نشيد شبه يومي للمسؤولين الإسرائيليين. ويقدرون أن إصرار محور المقاومة على التواصل البري ناتج من حرصهم على توفير بديل من التواصل الجوي والبحري، الذي يمكن قطعه أو الحد منه في أي توتر أمني أو مواجهة عسكرية. ويقدر الخبراء الإسرائيليون أن هامش الحركة لدى أطراف محور المقاومة عبر المسار البري سيصبح أوسع بكثير بما لا يقاس بالبدائل الأخرى. ويجوِّف أي «إنجازات» تكتيكية تتمكن تل أبيب من اقتناصها.
ووفق خبراء إسرائيليين، يشكّل الجسر البري عبر الأراضي العراقية العنصر الأساسي في خط الدفاع الأمامي والردع الاستراتيجيين لإيران في مواجهة إسرائيل. وهو خيار بات أكثر من مطلوب إيرانياً من منظور إسرائيلي، وذلك انطلاقاً من أن الجمهورية الإسلامية، التي ترفع راية تحرير فلسطين ودعم قوى المقاومة في المنطقة، ستواصل تطوير قدراتها في مجال الصواريخ الباليستية والصواريخ الجوالة ومشروعها النووي.
في غضون ذلك، يعزز هذا المسار المخاوف الإسرائيلية من تعزيز الوجود الإيراني المباشر على الساحة السورية كونه يوفر لها خط إمداد بري يصلها بالعمق الاستراتيجي الإيراني عبر الأراضي العراقية. وانطلاقاً من هذا المفهوم، يرى بعض الخبراء في تل أبيب أنه في حال عدم كبح هذا المسار، فإنه سيشكل مدخلاً لبلورة تهديد وجودي على إسرائيل، في المدى البعيد.
على مسار موازٍ، يساهم هذا التواصل البري في تعزيز الحضور الإيراني والروسي على حد سواء، دعماً للنظام السوري. ويقدرون في تل أبيب أيضاً أنه سيكون له مفاعيله الكبيرة على تعزيز نفوذ حزب الله وقدراته في الساحتين اللبنانية والإقليمية. وسيُمكِّن طهران من تمكين «القوس الشمالي» (وفق تعبير نتنياهو)، الذي يُطوق إسرائيل ويقيدها كقوة إقليمية يستند إليها المعسكر الغربي في معادلات الصراع في المنطقة.
في ضوء ما تقدم، يصبح الصراخ الإسرائيلي الذي تتعدد مصادره وقنواته، بدءاً من نتنياهو وصولاً إلى المعلقين والخبراء في وسائل الإعلام الإسرائيلية، مفهوماً. ويعود ذلك إلى إدراكهم خطورة مفاعيل التحولات التي تشهدها الساحتان السورية والإقليمية، وفي الوقت نفسه إقرارهم بضيق خياراتهم الذاتية، وخوفهم من الأثمان الهائلة التي ستدفعها إزاء أي خطوات غير محسوبة. مع ذلك، لم تنعدم الرهانات الإسرائيلية والأميركية بالمطلق، لكن ذلك لا يغير حقيقة أن هذا التطور يشكل تجسيداً لانتصار محور المقاومة في معركة الإرادات التي احتدمت في أكثر من محطة في الساحة السورية، ومن أهمها التواصل البري مع العراق. ويؤكد أن سقف الرهانات والطموحات الأميركية والإسرائيلية يواصل تدحرجه في مسار انحداري، على قاعدة أن التهديد والتحدي الذي لا يمكن اقتلاعه ــ وهو ما حدث ــ ينبغي العمل على إضعافه. وإن لم يكن بالإمكان ذلك ــ وهو ما حدث ــ ينبغي العمل على تخفيضه. وإن لم يكن... فمحاولة إشغاله واحتوائه، وإن لم يكن، فالصراخ بأعلى الصوت احتجاجاً وتهويلاً وتنديداً.
أمام هذا المشهد الإقليمي، تصبح المساعي السعودية لإرباك الساحة اللبنانية ومحاولة إثارة الفتنة الداخلية أكثر وضوحاً على مستوى السياقات والأهداف. لكن ما ينبغي انتظار اكتمال معالمه الخطة الأميركية لمرحلة ما بعد «داعش» على الساحة العراقية.