دعت رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، نظيرها الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إحياء الذكرى المئوية الأولى لوعد بلفور، بتاريخ الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 2017. ورفضت تقديم الاعتذار عن هذا الإعلان، الذي يُعَدّ الحجر الأساس في تأسيس دولة إسرائيل، بناءً على طلبات تقدم بها القادة الفلسطينيون.
في الواقع، وقبل بضعة أسابيع من انتهاء الحرب العالمية الأولى، أعلن وزير خارجية بريطانيا العظمى، آرثر بلفور، رسمياً تأييده إقامة وطن يهودي في فلسطين. وجاء في إعلانه: «إن حكومة جلالة الملكة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطنٍ قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر». إن استيطان فلسطين مثّل الرهان المركزي في مشروع تقاسم الشرق الأوسط بين بريطانيا العظمى وفرنسا. قُدِّم هذا الوعد لليهود في إطار مشروع «تجزئة» الشرق الأوسط الذي جرى التباحث بشأنه بين الدولتين خلال الاتفاقيات السرية التي أطلق عليها اسم اتفاقيات سايكس ـ بيكو (1916)، وهو المشروع الذي اتخذ صيغته النهائية في مؤتمر سان ريمو (1920)، وحظي بتأييد عصبة الأمم سنة 1922. كانت الحرب العالمية الأولى «حرباً للسلب والنهب» بين القوى العظمى آنذاك: في الشرق الأوسط حصلت فرنسا على حق الانتداب على سوريا ولبنان، أما بريطانيا فقد وضعت يدها على العراق وفلسطين. نُفِّذ الوعد الذي قطع لليهود، أما الوعد للعرب (أي دولة عربية مقابل الوقوف ضد الإمبراطورية العثمانية) فلم يجرِ تجسيده. في كتابه «الإمبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية»، كتب لينين أن الحرب العالمية الأولى مثلت الذروة في صراع البلدان الرأسمالية على غزو الأراضي. لم يفلت أي بلد من السيطرة، والأمر الوحيد الذي يمكن أن يتغير ــ بحسب لينين ــ هو «السيد» الذي «يمتلك» تلك البلدان. لقد بين المسار التاريخي أن لينين كان على حق في هذه النقطة، إذ تحولت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية إلى «سيد» الكون. ولكن هل يمثل احتقار تيريزا ماي للفلسطينيين انعكاساً للهيمنة الشاملة التي لم تتغير للغرب على هذه المنطقة منذ 100 عام؟ يتفق العديد من المراقبين على التأكيد أن الإمبريالية شهدت تحولاً عميقاً. إن الإمبريالية تشهد مرحلة من الضعف بسبب عوامل عدة، بشكل خاص بروز قوى مثل إيران وتركيا، والمقاومة الشعبية كما حصل في فلسطين.

إن الانهيار الشامل قد أصبح اليوم فرضية واقعية
خلال تحليله لأسباب ضعف الصهيونية، باعتبارها امتداداً للإمبريالية في المنطقة، يرى المفكر منير شفيق أن «القيادة الإسرائيلية الحالية لا تمتلك الرؤية، وقد فقدت مصداقيتها، وهي ضعيفة ولا يمكن مقارنتها بالقيادة التي كانت موجودة خلال تأسيس اسرائيل... كما أن الجيش الإسرائيلي لم يعد يحارب، وقد تعرض للهزيمة خلال أربع حروب خاضها، وقد تحول بشكل تدريجي إلى قوة شرطة». من أجل توضيح هذا التطور في عمق المجتمع الاستيطاني، يضرب منير شفيق هذا المثل المعبّر: «قام شاب فلسطيني من مناطق 48 بقتل إسرائيليين اثنين في عملية في تل أبيب. تمكن الشاب من الهرب وبقي مختبئاً لمدة أسبوع، وطوال هذا الأسبوع توقفت الحياة في تل أبيب. لم يعد الإسرائيليون يجرؤون على الخروج، إلى أن عثرت عليه قوات الاحتلال وقتلته في قريته». أبعد من هذا التطور البارز، يمكن تفسير الاتجاه الانحداري للإمبريالية من خلال الآليات الداخلية للرأسمالية.
في كتابه المذكور سابقاً، يبين لينين أن استراتيجية غزو الأراضي، منذ نهاية القرن التاسع عشر، ارتكزت على الفكرة التي صاغها مصرفي إنكليزي ثري: «إن الإمبراطورية، كما كنت أقول دوماً، هي مسألة تتعلق بالبطون. إذا كنتم ترغبون بتفادي الحرب الأهلية، يجب عليكم أن تتحولوا إلى إمبرياليين». بمعنى آخر، لقد أوجد الإمبرياليون ببراعة توافقاً بين الطبقات، من طريق توزيع جزء صغير من الأسلاب التي ينهبونها من المستعمرات إلى الطبقات الاجتماعية المستغلة والفقيرة. إن عبارة المصرفي الإنكليزي مبتورة من الوجه الآخر للديالكتيك الإمبريالي: من أجل تمتين الإمبراطورية، يجب تحييد التناقضات الداخلية من طريق فبركة نوع من التضامن الطبقي مخالف للطبيعة. لكن هذا التوافق يتعرض اليوم للتصدع بسبب عودة المسألة الاجتماعية إلى أوروبا والولايات المتحدة، إذ أظهرت الانتخابات الرئاسية والتشريعية في فرنسا التي جرت هذا العام التوترات الاجتماعية والسياسية التي عُبِّر عنها بالمقاطعة الكثيفة وبالتصويت الطبقي «المعادي للنظام». وأُرغمت إنكلترا، نتيجة التصويت الشعبي وجزء من البرجوازية، على مغادرة الاتحاد الأوروبي. وفي الولايات المتحدة، شكّل إفقار «الأبيض الصغير» والتناقضات داخل الطبقات المهيمنة ذاتها العامل الحاسم في وصول دونالد ترامب إلى السلطة. إن التوترات في أعلى هرم الدولة الأميركية تظهر أن الطبقات الحاكمة تواجه صعوبات في إيجاد التوافق واتباع استراتيجية واضحة. في كل مكان، يستفيد رأس المال من الظروف غير الملائمة للعاملين بأجر لكي يمارس الضغط من أجل خفض الأجور. إن «سياسة البطون» والتفاهم التاريخي بين الطبقات قد وصلت إلى حدودها القصوى منذ سنة 1970. هذا الوضع الداخلي في الدول الرأسمالية له آثار سياسية، قد تفضي، حين يحين الوقت، إلى أزمة في شرعية هذه الدول. إن الأزمة المالية التي حصلت سنة 2008 تعيد التذكير بأن القواعد التي تقوم عليها بنية النموذج الغربي هشة. إن الانهيار الشامل قد أصبح اليوم فرضية واقعية. إن الإنسان الغربي الشبعان والمتراخي، الذي لا يملك الحيوية الهدامة، والذي كان الفيلسوف هربرت ماركوز قد شجبه في سنوات 1960، لم يعد واقعاً ملموساً. هنالك قوى جديدة للتسبب بالصدع، وهي تضع الطمأنينة البرجوازية للديمقراطيات الغربية موضع التساؤل.
في الحقيقة، إن الدول الرأسمالية المهيمنة تواجه اليوم تحدياً مزدوجاً: الانحطاط السياسي الداخلي وحتمية غزو الأسواق الجديدة كل يوم، وهو الأمر الذي يشعل حرباً اقتصادية ضروساً في ما بينها. إن بلوغ الرأسمالية هذه المرحلة الجديدة يفسر التدخل الغربي الفظ، في كل مكان، برغم جميع المخاطر. لهذا السبب حلل المفكر الملتزم نعوم تشومسكي الوحشية الإمبريالية، أي الاستخدام المفرط للقوة، بأنها استراتيجية غير منتجة وغير عقلانية، كان أوضح مثال عليها هو السلوك الإسرائيلي ضد أسطول الحرية التركي المؤيد لغزة سنة 2012. يقول تشومسكي: «إن الدول لا تتصرف بالضرورة بصورة عقلانية، وإسرائيل أضحت غير عقلانية بشكل كبير، ومصابة بالهذيان ومتعصبة قومياً. خذوا مثال الهجوم على أسطول الحرية. إنه تصرف لا عقلاني بشكل كلي. كان بإمكانهم توقيف القوارب لو أرادوا. إن مهاجمة قارب تركي وقتل الأتراك هو الأمر الأكثر جنوناً الذي يمكن أن ترتكبه إسرائيل من وجهة النظر الاستراتيجية. لأن تركيا هي حليفة إسرائيل الأولى في المنطقة منذ سنة 1958. إن مهاجمة أفضل حليف لك في المنطقة ومن دون أي سبب هو الجنون بشكل كلي». هل يعني ذلك أن الإمبريالية على سرير الموت؟ من المبكر جداً قول ذلك، لكن المقاومة الشعبية ومسار الاستقلال الذي تنتهجه دول الشرق الأوسط ترخي بثقلها على التناقضات الداخلية للإمبريالية التي لا يعتبر ضعفها البنيوي بالتأكيد نهايةَ للتاريخ، بل نهاية لتاريخٍ بعينه، تاريخ الغرب المستكبر. إن غرور تيريزا ماي خداع بصري.
*كاتب جزائري