«الضمّ» هدف فعلي وليس حملة انتخابية
المؤكد أن قضية فرض «السيادة» على مستوطنات الضفة تتحول إلى قضية محورية في التنافس بين الأحزاب الإسرائيلية، وتحديداً «الليكود» و«أزرق أبيض» الذي دعا مسؤولوه أيضاً إلى ضمّ غور الأردن. كذلك، يشكّل ضمّ مستوطنات الضفة امتداداً لسياسة تهويد فلسطين التي بدأت مع أول مستوطنة بُنيت على الأرض. وبنظرة خاطفة إلى مراحل التهويد، من الواضح أن التدرج كان السمة الغالبة، قبل إقامة إسرائيل عام 1948 وبعدها. فعقب فرض الاستيطان في ظلّ الاحتلال البريطاني، ثم إضفاء شرعية دولية عليه عبر قرار التقسيم 181 عام 1947، استغلت إسرائيل حرب 1948 وأقامت كيانها على 78% من مساحة فلسطين التاريخية، أي بزيادة 24% عن المساحة المخصصة لها في قرار التقسيم، ثم انتقلت إلى تهويد تلك المناطق. وفي 1967، احتلّت باقي الأراضي الفلسطينية والعربية في مصر وسوريا. وفي النهاية، انتقلت إلى مرحلة الاستيطان لتهويد المناطق المحتلة، حتى خلصت إلى ما انتهت إليه من الاعتراف الأميركي بالقدس «عاصمة» لها، وبالجولان جزءاً منها.
بلحاظ هذا السياق التاريخي، من الواضح أن هذه المرحلة في سياسة التهويد المتدرّجة تتطلّب إضفاء «شرعية» ما على مستوطنات الضفة وغور الأردن، والتي تضمّ أكثر من 800 ألف مستوطن، انطلاقاً من أن تل أبيب ترى الظرف السياسي العربي والدولي فرصة مثالية لتحقيق طموحها. كما يبدو أن نتنياهو يرى في الانتخابات الأميركية ظرفاً مثالياً لانتزاع موافقة على هذه الخطوة بناءً على حسابات دونالد ترامب. أما فرضية امتناعه عن التطبيق لحسابات سياسية أو قانونية، فقد ثَبت عقمها، حتى لو أدى الضمّ إلى تغير نسبة السكان بين الفلسطينيين واليهود داخل إسرائيل؛ إذ لم تعد تلك القضية بلا حلّ من منظور اليمين الإسرائيلي الذي يرى أن هناك إمكانية لصيغة سياسية تجمع بين الضمّ والفصل، وهو ما سبق أن شبّهه وزير الأمن السابق، موشيه يعلون، بـ«التوأم السيامي».
الضمّ المفترض يشمل مناطق «ج» التي لا يسكنها سوى نحو 150 ألف فلسطيني، يعيش قرابة ثلثهم، وفق تقرير «مكتب مراقب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان»، في تجمّعات تعاني نقصاً في الاحتياجات الإنسانية والحماية، وهي موزعة في قرى صغيرة، فيما يعيش نحو 27 ألفاً منهم في تجمعات بدوية ورعوية يقع عدد كبير منها في مناطق نائية، وهؤلاء الأكثر احتياجاً في الضفة لأنهم يعيشون في مبانٍ بسيطة مثل الخيام وبيوت الصفيح، ويجدون صعوبة في الوصول إلى الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية والثقافية والرياضية، ولا توجد لديهم بنى تحتية مناسبة.
ما ينبغي إعادة تأكيده هو ارتباط الضفة بالعقيدة اليهودية بوصفها أرض دولتهم القديمة المحرّم التنازل عنها. تضاف إلى ذلك الأهمية الاستراتيجية للضفة التي تنبع من كون هذه المناطق تشكّل الغلاف المحيط بمناطق «أ» و «ب» وصلة الوصل بينها، كما تعدّ المخرج الوحيد للضفة إلى العالم، وتشكّل الحدود مع أراضي الـ 48 من الغرب والشمال والجنوب والأردن من الشرق، وهذا ما يؤدي إلى تمسك إسرائيل بها لاعتبارات تدرجها في خانة الضرورات الأمنية والاستراتيجية (حماية جبهتها الشرقية وخاصرتها في الوسط)، إلى جانب ضمان تهويد القدس والاستمرار في تنفيذ المشروع الاستيطاني، والتواصل بين الجنوب والشمال من خلال الأغوار. كذلك، قسم كبير من هذه الأراضي على تماس مع حدود 1967، بل وقريب من العمق. ولهذا، عملت إسرائيل على تفريغ تلك المنطقة من سكانها الفلسطينيين بصورة تدريجية، مستغلّة قلة عددهم، عبر مجموعة من الإجراءات التعسفية، بالتوازي مع خنق مناطق الضفة الأخرى ومحاربتها اقتصادياً، لأن للأرض أهمية أساسية في النشاط الاقتصادي والتنمية.
ماذا بعد؟ يمكن لبقية الفلسطينيين أن يبقوا في المناطق التي هم فيها وفق الصيغة القائمة، فيما تراهن إسرائيل على دور السلطة في ضمان منع التداعيات الشعبية والأمنية التي يمكن أن تشكل عامل ضغط جدياً على الاحتلال، وخاصة أنه بات واضحاً، أكثر من أيّ وقت مضى، أنه لا يوجد ما يردع إسرائيل سوى حسابات من نوع الخوف من انتفاضة شعبية واسعة ومتواصلة، أو موجة ردود ميدانية قاسية، تؤدي إلى تحوّلِ ما تَراه تل أبيب فرصةً إلى تهديد.