في آخر حلقة من مسلسل الكشف عن زيف ادعاءات لندن تجاه شعوب العالم عامةً والمنطقة خاصةً، قضت المحكمة العليا البريطانية مطلع الأسبوع بـ«شرعية» تصدير الأسلحة إلى السعودية، ضاربةً عرض الحائط بعشرات التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية، التي تؤكد ارتكاب الرياض جرائم حرب في اليمن، مستخدمةً السلاح البريطاني.
ويأتي الحكم المثير للجدل في وقت يحتدم فيه النقاش بشأن تقرير من 12 صفحة بعنوان «التمويلات الخارجية للتطرف الإسلامي» أصدرته مؤسسة «هنري جاكسون» البحثية البريطانية، خلص إلى وجود صلة بين التطرف في بريطانيا والسعودية، التي «أنفقت خلال الأعوام الثلاثين الماضية ما لا يقل عن 67 مليار دولار لدعم التطرف في الغرب».

حقوق الإنسان!

«إنه خبر مروِّع بالنسبة إلى المدنيين في اليمن». بهذه العبارة علّقت منظمة «هيومن رايتس ووتش» على رفض المحكمة العليا طلب ناشطين بريطانيين وقف صفقات السلاح مع السعودية بسبب جرائم الحرب التي يرتكبها تحالف العدوان الذي تقوده الرياض ضد اليمن. ووصفت المنظمة في تقرير بعنوان «اليمن يعاني على يد السعودية، والمملكة المتحدة تستفيد»، الحكم بالـ«مخيّب للآمال بشدّة»، مشيرة إلى أن القضية القانونية التي رفعتها «حملة مناهضة تجارة الأسلحة» المعروفة اختصاراً بـ(CAAT)، والتي «تستند إلى أدلة قدمتها المنظمات الحقوقية»، كانت تهدف بالمقام الأول إلى «الدفع نحو تعليق الصفقات من أجل الضغط على الرياض لإنهاء هجماتها غير القانونية في اليمن».
وأثار الحكم موجة انتقادات واسعة من قبل الصحف البريطانية والمنظمات الحقوقية والناشطين في هذا المجال، الذين وجدوا فيه دليلاً إضافياً على «نفاق» الحكومة البريطانية التي تعطي (مرّة أخرى) أولوية لمصالحها الاقتصادية والتجارية مع السعودية على حقوق الإنسان.
إلا أنّ مفهوم «حقوق الإنسان»، «لم يعد في سلم أولويات لندن ولا في طليعة ما يُعرف بالقيم الأوروبية»، وفق المتحدث باسم CAAT أندرو سميث، الذي يعتبر في حديث إلى «الأخبار»، أنّ «الحكم القضائي بمثابة ضوء أخضر للحكومة لتواصل تسليح الدكتاتوريات الوحشية ومنتهكي حقوق الإنسان ودعمهم، مثل السعودية، التي أظهرت تجاهلاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني».
برغم الانتقادات الواسعة، فإنّ صحفاً بريطانية بارزة اعتبرت أنّ القرار «غير صادم» نظراً إلى الأهمية الاستراتيجية للعلاقات البريطانية ـ السعودية الممتدة منذ عشرات السنوات. وهذه ليست المرة الأولى التي يُسلَّط فيها الضوء على ملف صفقات السلاح البريطانية ــ السعودية، خاصةً مع انتشار تقارير في العامين الماضيين وضعت السعودية في صدارة الدول الأكثر استيراداً للأسلحة في الشرق الأوسط والعالم، وفي طليعة البلدان التي «أنعشت» سوق السلاح البريطاني.

أخطر دعاة الكراهية
في بريطانيا جاؤوا من
العباءة الوهابية


وبالرغم من ذلك، لم يسبّب أيٌّ من هذه الانتقادات إحراجاً للحكومة ودفعها نحو تعليق أي من هذه الصفقات (ولو مؤقتاً) مع الرياض، وذلك تخوفاً من التداعيات الاقتصادية والتجارية والأمنية «السلبية».
وتُعدُّ السعودية أكبر زبون لبريطانيا في سوق تجارة السلاح، إذ وافقت لندن على تصدير أسلحة بما يفوق 3 مليارات جنيه إسترليني (3.87 مليارات دولار)، بما فيها طائرات مقاتلة وعمودية وطائرات من دون طيار بقيمة 2.2 مليار جنيه إسترليني، وذخائر وصواريخ وقنابل بقيمة 1.1 مليار جنيه، وعربات مدرعة ودبابات بقيمة 430 مليون جنيه، إلى الرياض في العامين الماضيين فقط، وذلك تزامناً مع بدء العدوان على اليمن، الذي ذهب ضحيته حتى الآن أكثر من عشرة آلاف يمني، بينهم أكثر من 2,500 طفل.
واليوم، وبعد أكثر من عامين على العدوان، يعاني أربعة من كل خمسة يمنيين انعدام الأمن الغذائي، فيما يموت طفل واحد على الأقل كل عشر دقائق من أمراض يمكن الوقاية منها، وفق «منظمة الأمم المتحدة للطفولة» (يونيسيف). ومع استمرار عمل 45% من المنشآت الطبية فقط وتدمير أنظمة الصرف الصحي، أصيب ما لا يقل عن 300 ألف شخص بالكوليرا، فيما أعلنت الأمم المتحدة أن البلاد الواقفة على شفا مجاعة، تواجه «كارثة إنسانية» مع حاجة 80% من السكان للمساعدة.
ويؤكد تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أنّ «الانتهاكات مستمرة بلا هوادة وإلى حدّ كبير من دون عقاب في اليمن»، في وقت تثبت فيه التقارير أن الجهات التي يجب أن «تحاسب»، وهي الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، هي المستفيد الأكبر من تجارة الأسلحة وتستأثر مجتمعة بنسبة 88% من الصادرات، التي تصل بالدرجة الأولى في منطقة الشرق الأوسط إلى السعودية.
وفي هذا السياق، يقول نائب الرئيس التنفيذي في منظمة «أوكسفام» بيني لورنس، إنه «في الوقت الذي تمدّ فيه بريطانيا يد العون الإنسانية لليمنيين من طريق المساعدات الطبية والغذائية، فإنها تُسهم في المقابل بتأجيج القتال العنيف من خلال بيع الأسلحة للتحالف العربي، ما يزيد من إمكانية ارتكاب جرائم حرب».
وتقول CAAT إن بريطانيا باعت خلال العقود الماضية أسلحة تقدر قيمتها بعشرات المليارات من الجنيهات الإسترلينية للسعودية، وإن أكثر من 80 شركة بريطانية حصلت على رخص لتصدير هذا السلاح، وعلى رأسها شركة BAE، وهي ثالث أكبر شركة منتجة للأسلحة في العالم، وهي التي تعاقدت مع السعودية في صفقتي «اليمامة» و«السلام» الشهيرتين اللتين تجاوزت قيمتهما المئة مليار جنيه إسترليني، وخضعتا لتحقيقات عقب اتهامات بوجود رشىً وفساد.
وفي آب الماضي، عادت صفقة «اليمامة»، التي باعت بموجبها بريطانيا طائرات مقاتلة للسعودية في ثمانينيات القرن الماضي، إلى الواجهة مجدداً، بعد رفع السرية عن وثائق محفوظة في الأرشيف الوطني البريطاني تُظهر الدور الشخصي الذي لعبته رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك مارغريت تاتشر، في تأمين «الصفقة الأكبر والأكثر إثارة للجدل». أهمية ذلك أنّ دور تاتشر، يشبه كثيراً الدور الذي تلعبه تيريزا ماي اليوم، إذ فضلاً عن زيارتها الرياض عقب تسلمها منصبها قبل نحو عام، ودفاعها الحاد عن صفقات السلاح السعودية ــ البريطانية بحجة أنّ «العلاقة التاريخية مع المملكة مهمة للأمن والتجارة والاقتصاد»، فإنّ الأيام الماضية كشفت أنها «تخفي» الصلات بين السعودية والجماعات الإرهابية في بريطانيا.

تسترٌ... على السعودية

تتهم صحف بريطانية وزعماء أحزاب معارضة رئيسة الوزراء بـ«التستر» على تقرير حكومي منجز منذ ستة أشهر على الأقل، بشأن تمويل التطرف والإرهاب في بريطانيا، ذلك «لأنه يشكّل إحراجاً للسعودية».
ونقلت صحيفة «ذي غارديان» عن زعيمة «حزب الخضر» كارولين لوكاس، قولها إن ماي «سعت منذ بداية رئاستها إلى تعميق علاقات المملكة المتحدة مع دول الخليج... وإنّ التأخير المدهش في نشر تحقيقات وزارة الداخلية يترك علامات استفهام حول ما إذا كان قرار النشر يتأثر بعلاقاتنا الدبلوماسية مع هذه الدول، ولا سيما السعودية». وكان من المقرر أن يصدر التقرير، الذي طلبه رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون، في كانون الثاني من العام الماضي، إلا أنه وفق الصحيفة «ماي تحتفظ به لكون السعودية أحد أهم الشركاء التجاريين والمستوردين للأسلحة المصنعة في بريطانيا». فبالإضافة إلى السلاح، أوضح تقرير صدر من الموقع الرسمي للحكومة البريطانية أن الرياض تُعَدّ الشريك التجاري الأول لبريطانيا في منطقة الشرق الأوسط، إذ يقدّر حجم التجارة السنوية بـ 8.2 مليارات دولار، فيما تستثمر الرياض في أكثر من نحو 75 مليار دولار في الاقتصاد البريطاني.
ويتزامن قرار المحكمة والحديث عن التقرير الحكومي مع تقرير «هنري جاكسون»، الذي يوضح وجود «صلة واضحة ومتنامية بين منظمات إسلامية تتلقى دعماً من الخارج ومنظمات تروج للكراهية وتروج للعنف»، مشيراً إلى أن السعودية، التي ذكرها التقرير 83 مرة، «تتصدر لائحة الدول الداعمة للتطرف حيث قامت منذ ستينيات القرن الماضي برعاية جهود بقيمة مليارات الدولارات لتصدير الفكر الوهابي عبر العالم الإسلامي، بما في ذلك المجتمعات الإسلامية في الغرب». وأضاف أن هذا التمويل اتخذ في المقام الأول شكل هِبَات وأوقاف للمساجد ومؤسسات تعليمية إسلامية، مشيراً إلى وجود 24 مدرسة «سعودية» في بريطانيا. ووفق المؤسسة البحثية، فإن السعودية «أنفقت نحو 1.5 مليار جنيه إسترليني على الأقل سنوياً بهدف نشر التيار الوهابي في العالم... وأن حجم التمويل تضاعف في 2015، ما يفسّر ذلك بزيادة عدد المساجد المنسوبة إلى الوهابية في بريطانيا من 67 مسجداً في 2007، إلى 101»، داعية إلى «إجراء تحقيق عام في الدور الذي تلعبه السعودية ودول خليجية أخرى في هذا الخصوص، ومطالبة المؤسسات الدينية، ولا سيما المساجد، داخل بريطانيا بالكشف عن جميع مصادر التمويل الخارجي». وقال التقرير إن «أخطر دعاة الكراهية في بريطانيا جاؤوا من داخل عباءة الأيديولوجية السلفية الوهابية، ولديهم روابط بتمويل الإرهاب في الخارج، من خلال الدراسة في السعودية، أو لأنهم جزء من برامج المنح الدراسية، أو لتلقيهم أدبيات التطرف داخل بريطانيا».




ماي لا يهمها إلّا الصفقات


اعتبرت صحيفة «ذي غارديان» البريطانية أن «الأسلحة البريطانية والعسكريين الذين يُقدِّمون دعماً فنياً للسعودية في اليمن سيسهمون في إطالة أمد الحرب، وبالتالي زيادة معاناة المدنيين»، مشيرة إلى أن «ما يهم رئيسة الوزراء تريزا ماي هو ما يدرّه بيع الأسلحة للسعودية من أموال للخزانة البريطانية والشركات في المملكة المتحدة، وليس أي شيء آخر».
وأشارت إلى أن بيع السلاح للسعودية «ليس المشكلة في حد ذاتها، بل الأزمة هي أين تستخدم السعودية هذا السلاح... والأمر واضح بعد إشعال السعودية لفتيل الحرب في اليمن». وأضافت «ذي غارديان» أن «الحكومات البريطانية المُتورِّطة في مثل هذه الصفقات حاولت تشويش الحقائق... ولكن في الشتاء الماضي، أقر مجلس الوزراء أخيراً بأنّ عدداً محدوداً من القنابل العنقودية البريطانية المحظورة بموجب القانون الدولي قد استُخدِمت في الحرب الدائرة. وبعد ضغط أكبر، اتّضح أنّ 500 من تلك القنابل قد بيعت في الثمانينيات للسعودية».