العرب لا يفكرون بالمراجعة والقيام بخطوات عاقلة إلا تحت الضغط. وهو ما يجعلهم جميعاً، لا قسماً منهم فقط، يهربون من استحقاق وواجب المراجعة لأحوالهم. فتراهم ينتقلون من حفرة الى أخرى، ويدفعون الثمن مضاعفاً.في جانب محور المقاومة مثلاً، تتحول الحرب المفتوحة مع الأعداء في أكثر من بلد، الى ذريعة لعدم القيام بالمراجعة الضرورية، حيث يجب الفصل والفرز، بين الأسباب الداخلية التي تتحمل مسؤوليتها قوى وحكومات محور المقاومة، وبين الحروب التي تشن عليهم من الخارج. وكل تأخير في المراجعة، قد يمنع بروز تشققات في الجبهة الآن. لكن النجاحات مهما كبرت، لن تغطي على الإخفاقات.

في المحور المقابل، تكون المشكلة أكبر. وهو ما تظهره الأزمة الخليجية اليوم، حيث يهرب جميع أطرافها من مواجهة حقيقة فشل هؤلاء في تحقيق معظم أهدافهم. وأن الأمر لم يقتصر على عدم نجاح الخطة، بل انعكس تعاظماً في قوة الخصوم، حتى تصبح حال دول المحور الذي ترعاه الولايات المتحدة اليوم، مثل حال المجموعات المسلحة في سوريا، عندما تندلع المواجهات في ما بينها، في سياق تبادل الاتهامات حول من يتحمل مسؤولية الخسارة.
الحرب الإعلامية الطاحنة بين دول النزاع الخليجي تسعى جاهدة إلى تعمية البصائر. ويمارس الجميع لعبة الإنكار والهروب من مواجهة جذر الأزمة، العائد حصراً الى فشل الاستراتيجية التي اتبعت من قِبَلهم في العقدين الأخيرين، على صعيد تحالفاتهم العالمية والإقليمية، وإلى فشل استراتيجية العقد الأخير، على صعيد إدارة أزمات المنطقة، من فلسطين الى العراق ثم كوارث الربيع العربي. وبدل أن يهدأ هؤلاء قليلاً، ويراجعون ما حصل، تراهم يزايدون بعضهم على البعض الآخر في كسب رضى السيد الأميركي وهو صاحب ويلاتهم وناهب ثرواتهم.

السؤال المركزي المفترض بالقطريين الإجابة عنه: هل انتهت حاجة الغرب إلى دورهم؟!


لكن، لنراقب لعبة المطالب وطريقة تبادل الاتهامات، حيث لا يمكن إيجاد وصف للحملة الإعلامية التي تشنها الدول المحاصِرة لقطر اليوم أفضل من «الكوميديا البائسة». فقر في الخيال، وفقر في الإخراج وفقر في التنفيذ. ولعبة تكرار مملّة، تجعل المراقب يتوقع سريعاً ما سوف يرد في كل وسائل الإعلام الخاضغة لإدارة السعودية والإمارات ومصر. وهو فقر ليس ناجماً أصلاً عن نقص في الإمكانات أو العديد أو التقنيات، بل عن كون لائحة الاتهام والمطالب لا يمكن تسويقها بطريقة تدخل عقل المواطن الخليجي، فكيف العربي؟
ماذا يعني أن تطالب هذه الدول قطر بتقليص علاقاتها مع إيران وتركيا، بينما لم تتوقف دولة الإمارات مثلاً، كما السعودية ومصر، عن البحث عن قنوات لتواصل أوثق مع إيران. كما لا تتوقف دولة الإمارات أولاً، كما مصر عن إيجاد الطرق لفتح قنوات اتصال أمني وسياسي مع طهران لمعالجة مشكلات كبرى. كما لا تتوقف دولة الإمارات عن البحث في سبل تعزيز التعاون التجاري. وهي بقيت على الدوام، وبعلم الغرب وموافقته، المعبر الذي تستخدمه إيران لمواجهة كل أنواع العقوبات الاقتصادية. ويمكن إيران، في لحظة استهزاء بالإماراتيين مثلاً، ذكر الرقم المالي الهائل الذي دخل الخزائن الإماراتية جراء عمل مستمر منذ عشرين عاماً.
في مكان آخر، تطلب الدول المحاصِرة من قطر أن تُبعد قيادات حركة حماس، وتتوقف عن دعمها لها. يحصل ذلك في الوقت نفسه الذي تتولى فيه القاهرة وأبو ظبي إدارة أضخم تسوية ممكنة مع حركة حماس، لأجل معالجة ملف الحدود المصرية مع قطاع غزة من جهة، وإعادة تشكيل القيادة الفلسطينية من جهة ثانية. ومحمد دحلان الذي يسهب في شرح ما يطلبه السعوديون والإماراتيون والمصريون من قطر، يعيش أفضل لحظاته السياسية، وهو يراهن على اتفاق مع حماس يعيده الى غزة، ويفتح له الباب للعودة منافساً جدياً على رئاسة السلطة الفلسطينية.
أما السعودية، فلم تعد تجد من حليف لها في حربها المجنونة ضد اليمن، سوى حزب الإصلاح (فرع الإخوان المسلمين في اليمن)، حيث تتكل عليه لجلب المقاتلين الى حدودها الجنوبية، أو لشن اعتداءات ضد مناطق الشمال. وتوفر السعودية الدعم المالي والسياسي لهذا التنظيم، من أجل مواجهة التيارات السلفية في جنوب اليمن، التي تتولى الإمارات العربية قيادتها في سياق مشروع أبو ظبي للإمساك بكامل جنوب اليمن.
وفي ما خص سوريا وليبيا، يترك الإماراتيون والسعوديون للمصريين اتهام قطر بدعم المجموعات الإرهابية في هذين البلدين، علماً بأن مصر تعرف أكثر من غيرها حجم تنافس السعودية والإمارات مع قطر على دعم هذه المجموعات، حتى يومنا هذا، إذ تعرض السعودية والإمارات على المجموعات الإرهابية، المدعومة من قطر، التخلي عن الدوحة مقابل استمرار توفير الدعم المالي والعسكري، مع إغراءات بمضاعفته إذا لزم الأمر، علماً بأن الإماراتيين والسعوديين يعتقدون بأن نجاجهم في استقطاب مجموعات في الشمال السوري، من شأنه مقارعة تركيا في عقر دارها.
أما في ما خص البند المتعلق باستضافة قطر قيادات سياسية وأمنية مبعدة أو هاربة من دول عربية؛ من بينها مصر والسعودية والإمارات والبحرين (إضافة الى الموجود قبلاً من العراق والجزائر وسوريا، وعائلات قيادات من «القاعدة» وطالبان)، فان الأمر متعلّق باحتواء كل هذه القوة ضمن البرنامج السعودي ــ الإماراتي، وليس بقصد آخر، مثل حال ملف التحويلات المالية للمجموعات الإرهابية. إذ إن فتح تحقيق شامل، يخص كل دول المنطقة وليس قطر فحسب، سوف يكشف أن قطر (على الأقل) قامت بعمليات مالية بطلب، أو بعلم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. وهو أمر يقول مطلعون إنه سيظهر الى العلن في حال استمرار الضغوط على قطر، وإن مسؤولين سابقين في دول غربية قد يساهمون في الكشف عنه. وسوف يكشف من جهة ثانية حجم إنفاق الإمارات والسعودية في سوريا والعراق وليبيا أيضاً.
أما بشأن الإعلام، فيكفي مراجعة عقود القمرين «عرب سات» و«نايل سات» حتى نكتشف عشرات القنوات الفضائية الممولة من السعودية والإمارات (إضافة الى قطر) والتي تتخصص في بث الكراهية والتحريض الطائفي والمذهبي، مع درجة عالية من الغباء. وثمة معضلة تتعلق بسعي السعودية والإمارات الى السيطرة على القطاع الإعلامي النافذ عربياً. ويفكر محمد بن زايد في إنفاق مليارات إضافية من الدولارات لتوسيع شبكات إعلامية سياسية وترفيهية، بينما يستعد محمد بن سلمان لوضع يده على مجموعة الـ«mbc» تمهيداً لإدخال تعديلات تأخذ بعين الاعتبار برامجه السياسية والاقتصادية المقبلة، سواء منها ما يتعلق بالداخل السعودي أو بما يجري في الإقليم. ويعتبر المحمّدان أنه يجب تطويع الإعلام المدعوم من قطر لتسهيل هيمنتهما على المشهد الإعلامي العربي.
ضحالة الاتهامات لقطر تسهل على الدوحة معركتها، الإعلامية على الأقل، علماً بأننا لا نلحظ إبداعاً قطرياً في المواجهة. إذ تنحصر استراتيجيتها في إبراز «مظلومية الشعب المحاصَر» وفي خوضها معركة «مقاومة كَمّ الأفواه». لكن ذلك لا ينفع في تعديل جوهري على سياسات الدول المعنية بالمعركة القائمة. كما أن عموم الجمهور العربي لن يتعاطف مع قطر استجابة لهذه الشعارات، باعتبار أن الشارع العربي، الممتد من بلاد الرافدين والشام إلى المغرب العربي، يعرف تماماً حقيقة الدور الذي قام به الإعلام المدار من الدوحة. كما يعرف الجميع علاقات قطر السياسية والمالية مع جميع القوى السياسية في هذه الدول.
لذلك، يبدو واضحاً من سلوك الدبلوماسية القطرية، سواء في جانب الاتصالات، أو في الخطاب الإعلامي، أن الهدف هو عقد صفقة مع القوى الكبرى عالمياً. وقطر تعرف أنها مضطرة الى تقديم تنازلات، لكنها تفكر في التنازل للدول الغربية القادرة على كبح جماح دول الحصار، وأنها ترفض تقديم تنازلات جوهرية لخصومها في المنطقة. وهذا أحد أسباب أن الأزمة ستطول بعض الوقت.
على أن السؤال، الموجه الى القطريين اليوم قبل الدول الأربع، يتعلق بمدى استعدادها لإجراء مراجعة حقيقية، وعدم التلطي وراء حملة زعران الخليج عليها، لأن الجميع بات يعرف أنه لا عودة في الخليج الى ما كانت عليه الأوضاع قبل القمة مع الأميركيين في الرياض. وبالتالي، فإن مسؤولية قطر تقضي بالعودة الى أصل المشكلة الذي يتعلق بدور الخليج في الإقليم والعالم، وهنا بيت القصيد.
فهل تقْدِم قطر على مراجعة تتجاوز حاجتها الى تسوية مع جيرانها العرب، أم تواصل سياسة الهروب نحو مراضاة الغرب، لاعتقادها بأنه الجهة الوحيدة الضامنة لبقاء الحكم آمناً في الدوحة؟
يبقى أن السؤال المركزي المفترض بالقطريين الإجابة عنه: هل انتهت حاجة الغرب إلى دورهم؟!