تونس | في الثمانينيات، التحق محسن مرزوق، الناشط منذ شبابه في الحراك الطلابي الاحتجاجيّ، بتجمّع سياسيّ على يسار اليسار، «الوطنيون الديموقراطيون في الجامعة». كان «الوطج» يومها جسداً سياسياً مغرياً للطلبة المتحمسين لأفكار اليسار، فهو على عكس تنظيمات أخرى لا يتخذ شكل حزب سياسيّ، إذ يوجد «وطنيون ديموقراطيون» في الجامعة يسيّرون شؤونهم في شكل حلقات تؤسس على مستوى الكليات، و«وطنيون ديمقراطيون» خارج الجامعة، في النقابات والأسلاك المهنيّة الأخرى، ما يعني إتاحة فرصة أكبر لظهور قيادات شابة في الحركة الطلابيّة.
كان الشاب القادم من ريف مدينة صفاقس عازماً على الانتقال من الهامش إلى مركز الاهتمام، متسلّحاً برغبة في البروز وببلاغة «يساريّة» صقلتها مطالعاته. تحدث عدد ممن عاصروه في تلك الحقبة عن سلوكيّات النجم الطلابيّ الصاعد، حيث كان مثلاً يدخل مطعم الكليّة محاطاً برفاقه، فيجلس ويخدمه أحدهم، وتذكر شهادات أخرى أسلوب تعامله المتعجرف مع رفاقه في مخيم رجيم معتوق العسكري خلال فترة تجنيده القسري هو ومئات من الطلبة الآخرين. ترسم تلك الشهادات صورة شخصيّة محسن مرزوق كنقيض لشخصيّة القيادي الراحل شكري بالعيد، إذ كان الأخير اجتماعيّاً ومقرباً من رفاقه، وحتى من أعدائه (حافظ بالعيد على صداقات مع شخصيات من حركة النهضة رغم صراعه الطويل معهم، في الجامعة وبعدها).

ركب البورقيبيّ المستجد
قطار حركة «النداء» قبل
الخروج منها

أخذ مرزوق آلة السياسة بيده اليسرى، لكنها سرعان ما أثقلتها، فنقلها إلى يمناه، وبدأ العزف من جديد. فبعد مغادرته الجامعة وفي جعبته شهادة دراسات معمّقة في علم الاجتماع، أكمل دراسة ماجستير في العلاقة الدوليّة، ثم نقل نشاطه خارج البلاد، في منظمات مدنيّة دوليّة. بدّل الرفيق خطاب اليسار بخطاب حقوقيّ، فعوّض ديكتاتوريّة البروليتاريا والإصلاح الزراعيّ بالانتقال الديموقراطيّ، وتغيّرت ملابس الطالب الفقير المبلّلة بعرقه بعد كلّ اجتماع عام طلابيّ، إلى بدلات رفيعة وربطات عنق مضبوطة. طار مرزوق إلى قطر، وهو رغم عدائه للإسلام السياسيّ ولمحوره (المجهول له)، رأى في الشيخة موزة شخصيّة ديموقراطيّة؛ وهو رأي تولد عن احتكاكه بالشيخة سنوات عدة في إطار المؤسسة العربيّة للديموقراطيّة، التي ترأست هي مجلس أمنائها فيما ترأس هو أمانتها العامة.
مثّل مرزوق كذلك منظمة «فريدم هاوس» في شمال أفريقيا. وهو لم يبخل في تقديم النصح والمشورة لسفير الولايات المتحدة في تونس كلّما سنحت له الفرصة. وتكشف وثائق سربّها موقع «ويكيليكس» تعود إلى عامي 2005 و2006، جهوده لتحويل تونس إلى «ديموقراطيّة بدعم أميركيّ قطريّ»، إذ اقترح في أحد الاجتماعات مع السفير تأسيس مركز إقليميّ (تدعمه قطر) لتطوير «القدرات والخبرات» في الممارسات الديموقراطيّة وتعزيز الحوار بين صناع السياسة والمجتمع المدنيّ. كان مرزوق يحمل قناعة بضرورة التأسيس لانتقال سلس للسلطة وإن اقتضى الأمر «تقديم ضمانات للمقربين من بن علي» (رأى طاقم السفارة في عبارة المقربين إشارة إلى عائلة الرئيس الموسّعة).

التكيّف مع الثورة

لم تكن طريقة إسقاط بن علي العنيفة جزءاً من أجندة محسن مرزوق الحقوقيّة، إذ يبدو أنّ الثورة داهمت مشروعه للانتقال السلس. جاءت الثورة وهو لم يؤسّس بعد شبكة شركاء وحلفاء مدربين، لكنه مع ذلك لم يكن مستعداً لرمي المنديل، فعاود الظهور من بوابة النشاط الحقوقيّ بتأسيس ما أطلق عليه «المجلس التأسيسي الموازي» لمراقبة أعمال المجلس التأسيسي (الفعليّ). لم يكن المجلس الموازي مهماً في حدّ ذاته، إذ اقتصر نشاطه في نهاية المطاف على بضع جلسات استعراضيّة. لكن المهم في الأمر، أنّ مرزوق عرف كيف يستفزّ الإسلاميّين، المهيمنين على المشهد السياسي حينها، فابتلعوا الطعم وشنّوا عليه حملة جعلت منه أيقونة لمعارضتهم.
بدأ الحقوقيّ العائد مسيرة صنع نفسه من جديد، فانطلق في جولات إعلاميّة شبه يوميّة في الترويج لما اختزنه من مصطلحات وبلاغة حقوقيّة. لم يمضِ وقت طويل حتى أعلن الباجي قائد السبسي نيته تأسيس حزب جديد يُحدِث توازناً مع الإسلاميّين، فالتقط مرزوق الإشارة وأعدّ لتحوّل ثانٍ يخرجه من الدائرة الحقوقيّة ويدخله الدائرة السياسيّة، لكن هذه المرة من بوابة أعدائه السابقين، «البورقيبيّون».

ركب البورقيبيّ المستجد قطار حركة «نداء تونس»، وحجز في داخله مقعداً أماميّاً خوّله ليكون رئيس حملة السبسي الرئاسيّة. فاز مرشحه بالانتخابات الرئاسيّة، فكان له ما أراد، وانفتحت أمامه أبواب قصر قرطاج وصار مستشاراً سياسياً للرئيس.
ما إن دخل مرزوق القصر حتى كثّف نشاطاته فأخذ يوسّع دائرة علاقاته ونفوذه محلياً، وطار إلى روسيا ودول أخرى في مهام كلفه بها الرئيس، لكن توقيعه مذكرة تفاهم مع وزير الخارجيّة الأميركيّ السابق جون كيري، في واشنطن (أيار/ماي 2015)، أثناء زيارة وفد تونسي بقيادة الرئيس، هو ما جعل صبر خصومه ينفد ويعجّل بمغادرته القصر.
لم يُكمل المستشار عامه الأول في القصر، حتى غادره إلى الأمانة العامة لـ«نداء تونس»، بطلب من السبسي وبهدف الحفاظ على وحدة الحركة، كما قيل حينها.

شقّ طريق وسط البحر

لم يهنأ محسن مرزوق بتزعمه «نداء تونس»، إذ ازدادت الحركة بقيادته تصدعاً وشقاقاً، خاصّة مع تزعم نجل الرئيس حافظ قائد السبسي جناحاً مناوئاً له داخلها. لكنّ الاستسلام عبارة غائبة عن قاموس مرزوق، والانطلاق من جديد صار أيسر له مما سبق، فاستغل ما حصّله في الأعوام الماضية وشقّ «نداء تونس». أخذ جزءاً مهماً من كوادر الحركة وناشطيها ونوابها البرلمانيّين وأسس «حركة مشروع تونس».
لم يترك مرزوق شيئاً مهماً لم يأخذه، بما في ذلك خطاب «البورقيبيّة»، وهو اليوم يتبنى «المشروع الوطنيّ الأصليّ» الذي يقول إنّ الباجي تخلى عنه بتحالفه مع «حركة النهضة». ويعمل الأمين العام لـ«المشروع» على تقوية بناء حركته، دون أن يفوّت فرصة لاستعراض شعبيتها وثقل الملتحقين الجدد بصفوفها.
وبصفة عامة، لم يكن بناء مشروعه الجديد صعباً على المستوى الوطنيّ، خاصة أنّه لم يبدأ من الصفر، لكن محاولاته لاجتذاب حلفاء إقليميّين لا تبدو على نفس القدر من النجاح. إذ في ظلّ ارتباط «النهضة» بالمحور القطريّ ــ التركيّ، وارتباط الباجي قائد السبسي بالمحور السعوديّ ــ الإماراتيّ (وإن لم يكن ارتباطاً صلباً)، وارتباط كليهما بعلاقات طيّبة مع الجزائر، لم يُبقِ لمرزوق في بورصة الحلفاء سوى لاعبين ثانويّين.
ضمن الجولات الإقليمية اللاحقة التي أجراها، طار الأمين العام لـ«المشروع» إلى لبنان في نهاية العام الماضي، لمقابلة رئيس الحكومة سعد الحريري، ورئيس الكتلة النيابيّة لـ«تيار المستقبل» فؤاد السنيورة. وفي خطوة مثيرة للجدل، توجه إلى ليبيا حيث التقى المشير خليفة حفتر، وهي زيارة لم تلقَ ترحيباً في تونس من «النهضة» ومن رئاسة الجمهوريّة التي نفت علمها بها (على عكس زيارة راشد الغنوشي إلى الجزائر مثلاً، التي قالت الرئاسة إنها تمّت بالتنسيق معها).
حالياً، رهانان يواجهان طموحات محسن مرزوق: كسب موطئ قدم ثابت في الساحة السياسيّة الوطنيّة التي يحتكر جزءها الأكبر «النداء» و«النهضة»؛ وبناء شبكة تحالفات إقليميّة مساندة... لكن كلا الرهانين يرتبطان أساساً بإثبات ثقله الانتخابيّ، وأول الاختبارات هو الانتخابات البلديّة المبرمجة نهاية العام الجاري.