أن لا يجد المشاهد، رغم بحثه الحثيث، دوافع منطقيَّة تبرر تصرفات الشخصيَّات في مسلسل تلفزيوني، يبقى أقل سوءاً من أن يجدها، فيكتشف أنَّها تتماهى تماماً مع دوافع الكاتب أو الجهة المنتجة لتصبّ في خانة وحيدة هي مطّ النصّ و مضاعفة عدد الحلقات! هذا التواطؤ بين الكاتب وأبطال عمله يفضح هشاشة هذا العالم المزعوم الذي قادنا الكاتب إليه بعدما اجتهد وتعب كثيراً في بنائه، ويعيد تذكيرنا كلّ لحظة بأنَّ ما نشاهده ليس سوى «تمثيليَّة»!
من هذا الباب، لا سواه، يمكن فهم التخبّط والتردّد والتناقض واللامنطق الذي يحكم تصرّفات شخصية «أمير» التي يؤديها يورغو شلهوب في «فخامة الشك» (كتابة كلوديا مرشليان، وإخراج أسامة شهاب الحمد، وإنتاج شركة «الصدى» ـ mtv). بعد متابعة الحلقة الأخيرة، يخرج المشاهد بخلاصة مفادها أنَّ «أمير» حُمِّلَ وحده مسؤولية تحويل المسلسل من 30 حلقة إلى 50 (60 بعد المونتاج)، وأنَّه لم يكن يبحث عن والده جهاد خليل (أحمد الزين) في القاهرة بقدر ما كان يحاول إلهاءنا وتشتيت انتباهنا عن «عدَّاد» الحلقات الآخذ في التصاعد من دون تقدّم ملحوظ في سير الأحداث!
المسلسل يحمل الكثير من أسباب النجاح إذا ما قارنّاه بأعمال لبنانية أخرى عُرضَت في الفترة نفسها ولاقت رواجاً كبيراً لا تستحقه، لكن تذوّقه بتأنٍ ومحاكمته وفقاً لمعايير صارمة نابعٌ من أهميَّة أسماء «الطباخين» الذين اشتركوا في إعداد هذه «الطبخة»: كلوديا مرشليان التي باتت – سواء أحببنا ذلك أم كرهناه – من أبرز الكتاب الدراميين في لبنان، والمخرج السّوري المبدع أسامة شهاب الحمد، وشركة «الصدى» التي دخلت الميدان بعمل ضخم هو «كواليس المدينة»، فلم يعد مقبولاً منها سوى اتخاذ خطوات أخرى إلى الأمام.
من نقاط قوَّة النصّ عنصر التشويق الذي أحبطته الإطالة أو كادت، والجهد الواضح للمخرج ولمسته الإبداعيَّة المميّزة، وأداء بعض الممثلين المقنِع والبعيد عن الإفتعال والتكلف: تقلا شمعون (عايدة والدة أمير)، ومجدي مشموشي (عصام صديق جهاد)، وربيع الحاج خليل (غدي ابن شقيق عصام)، والسا زغيب (سارة شقيقة أمير)، التي تكرّس في كلّ دور جديد تؤدّيه اتساع الهوَّة التي تفصل الممثلات المحترفات عن «بديلاتهنّ» الآتيات من عوالم الغناء والجمال وعرض الأزياء.
أما يورغو شلهوب، فيبدو أنَّ خبرته الكبيرة، وكذلك عامل الوراثة، لم يسعفاه في تقديم شخصيَّة أمير بطريقة مناسبة، وإذا كان غير مسؤول بطبيعة الحال عن التصرّفات الغريبة والمتناقضة للشخصيَّة التي يؤدّيها، إلا أنَّه مسؤول حتماً عن تقديمها بتكلف واضح وانفعالات مصطنعة، جعلت العديد من المتابعين على يوتيوب يعلقون متخيّلين – بحسرةٍ - حال المسلسل لو أسند دور «أمير» إلى طوني عيسى، ودور عشيقته «نور» إلى باميلا الكك بدلاً من سابين!
كما يبدو لافتاً، الاكتفاء بتصوير بعض المشاهد في القاهرة التي يفترض أنَّ أغلب الأحداث تدور فيها، لأسباب إنتاجيَّة كما يبدو، وإلقاء هذا الحمل الثقيل على المخرج ليتكفل بإقناعنا أنَّ ما نشاهده أمام كاميرته من أبنية وطرق ومساحات خضراء ليس بيروت التي نعرفها جيداً ومحيطها بل القاهرة! وبما أنَّ نمط العمارة مختلف جذريَّاً بين البلدين، وبما أنَّ السحر لا يدخل في فنون الإخراج، فإنَّ أسامة الحمد كان مضطراً إلى حلول «بشرية» وممكنة: كتمويه المشاهد الظاهرة من زجاج السيارة التي تسير في شوارع بيروت ويفترض أنَّها تسير في شوارع القاهرة لتبدو السيارة كما لو كانت تسبح في الفضاء، وكإقحام لوحة على جدار داخلي في فيلا رجل الأعمال «يحيى ابراهيم» (يؤدّي دوره فؤاد شرف الدين الذي يظهر اسمه في الشارة مع عبارة السينمائي اللبناني في حين أنَّ أداءه غلب عليه الطابع المسرحي)، واللوحة هي عبارة عن صورة فوتوغرافيَّة مؤطَّرة للأهرام، ليقول لنا المخرج «هنا القاهرة»! لكن، مهلاً.. الشيطان، الذي يكمن في التفاصيل لا سواه، يسأل: هل يحتفي اللبناني المغترب قسراً، عادةً، بآثار بلاده أو بآثار البلد الذي يقيم فيه؟
وليس بعيداً عن ذلك، يبدو لافتاً أيضاً الإصرار على تقديم الشخصيَّات المصريَّة القليلة والهامشيَّة بواسطة ممثلين لبنانيين لا يتقنون اللهجة المصريَّة مطلقاً. وكانَ الأوْلى هنا تقديم مسألة اللهجة على أيّ عنصر آخر حتى لو كان القدرات التمثيليَّة ذاتها، بمعنى أنَّ المشهد سيخرج بحلة أفضل لو أدَّى هذا الدور أو ذاك، والذي قد لا يتعدَّى عبارة واحدة يلقيها طبيب أو ممرضة في مستشفى، مصريٌّ لا يجيدالتمثيل و يتقن لهجته بطبيعة الحال، من أن يؤدّيه لبناني يحترف التمثيل و لا يتقن اللهجة المصريَّة، فالمُشاهد هنا بحاجة إلى الإقتناع اوَّلاً بهويَّة الشخصيَّة قبل التفكير في الحكم على أداء الممثل.
إلا أنَّ محاكمة «فخامة الشك» كي تكون منصفة، تقتضي مقارنته بأعمال أخرى تنتمي إلى البيئة نفسها و تولد في الظروف نفسها. فلنضع إذاً حسن سامي يوسف و رائعته «الندم» جانباً الآن، و لنفكر في«أمير الليل»... «فخامة الشك» ليس سوى خطوة إلى الأمام للدراما اللبنانيَّة.. خطوة جبَّارة إلى الأمام

*«فخامة الشك»: الحلقة الأخيرة غداً على mtv